الثلاثاء، 22 يونيو 2010

السيّــدة الخضــراء للفنان الروسي فلاديميـر تريتشيكـوف


وصف بعض النقاد هذه اللوحة بالمملة والسخيفة. وقال عنها البعض الآخر إنها لا تجلب للناظر أيّة متعة بالنظر إلى فقرها وضعفها من حيث الشكل والمضمون.
ومع ذلك، لم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت "السيّدة الخضراء" اللوحة الأكثر مبيعاً وشعبيةً في القرن العشرين. إذ يُقدّر عدد النسخ التي بيعت منها بأكثر من خمسة ملايين نسخة، وهو رقم قياسي لم يحققه حتى بيكاسو أو فان غوخ.
وطوال ستّينات وسبعينات القرن الماضي أصبحت اللوحة عنصراً ثابتاً في الكثير من البيوت في أوربّا وأمريكا، كما ظهرت في أكثر من فيلم سينمائي. وأصبح تريتشيكوف الذي لم يكن أحد قد سمع به من قبل شخصية مشهورة جدّاً بسبب لوحته الغامضة. بل لقد قيل في بعض الأوقات انه ثاني أكثر الرسّامين شعبيةً في العالم بعد بيكاسو.
وفي التسعينات تجدّدت شعبية اللوحة مرّة أخرى. لكن انقسام النقاد حول الفنان وقيمة اللوحة ظلّ على حاله.
في اللوحة نرى امرأة صينية (ويقال إنها من الملايو) بشعر اسود فاحم وفستان بُنّي له ياقة واسعة مذهّبة وهي تنظر إلى جنب وتضع يداً فوق يد. اسم المرأة "لينكا" وكان الرسّام قد تعرّف عليها أثناء إقامته في جاكرتا زمن الحرب العالمية الثانية، أي عام 1943م. وكانت المرأة في ذلك الوقت متزوّجة من طبيب هولندي لكن يظهر أنها لم تكن سعيدة معه. لذا لم تلبث أن وقعت في غرام تريتشيكوف وأصبحت عشيقته.
وربّما يعود احد أسباب شهرة اللوحة وشعبيتها الكبيرة إلى الطريقة الغريبة التي رُسم بها وجه المرأة الذي اختار له الرسّام لوناً غير مألوف هو مزيج من الأزرق والأخضر "ومن هنا جاء اسم اللوحة". أما تعابير الوجه فتبدو غامضة وإن كانت الملامح بشكل عام تعطي انطباعاً عن امرأة جريئة ومتحرّرة.
ولم يكن مستغرباً أن يعتبر بعض النقاد تريتشيكوف رسّاماً طليعياً ورائداً لما عُرف بعد ذلك بالرسم الشعبي. ومن عباءته خرج في ما بعد اندي وارهول وروي ليكتنشتاين وغيرهما.
وقد تكون جاذبية اسم اللوحة، نفسه، سبباً آخر في شعبيّتها ورواجها. والكثيرون ممن راقت لهم، وجلّهم من أبناء الطبقة العاملة ومن الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، كانوا في الأساس شغوفين بحضارة الصين وجنوبي شرقي آسيا وكانوا يرون في المرأة رمزاً لعالم غرائبي وغامض طالما تاقوا لزيارته والوقوف على معالمه لولا أن وسائل الاتصال في ذلك الوقت كانت بسيطة وقاصرة عن تحقيق ذلك الهدف.
وثمّة من يقول إن هجوم النقاد على اللوحة كان عاملاً مهمّاً في تحفيز الناس أكثر على شرائها واقتنائها. فالفكرة الشائعة عن النقاد أن كثيراً منهم نخبويون وانتقائيون بطبعهم. وقد درج بعضهم على اعتبار أن شعبية عمل فني ما ليست بالضرورة معياراً ولا دليلاً على جودته أو قيمته الإبداعية.
ولد تريتشيكوف في كازاخستان عام 1913 ، ولما اندلعت الثورة البولشفية انتقلت عائلته إلى الصين. وقد عاش حياة اتّسمت بالترحال وعدم الاستقرار. ومواضيع لوحاته استلهمها من تجربته في العيش في الصين وماليزيا وإندونيسيا وجنوب أفريقيا.
ومن المؤكّد أن هذه اللوحة جعلته غنياً جدّا فعاش حياة بوهيمية ومترفة. لكنه ظلّ دائما إنساناً بسيطاً ومتواضعاً. ولطالما عبّر عن احتقاره وكراهيته للحياة في ظل الأنظمة الماركسية والشمولية.
قضى تريتشيكوف السنوات الأخيرة من حياته يعاني المرض والوحدة في دار للرعاية بجنوب أفريقيا إلى أن توفي قبل سنتين عن 92 عاما.
أما لينكا أو "السيّدة الخضراء" فتعيش منذ سنوات في مدينة هيلفرسوم الهولندية وعمرها اليوم يربو على التسعين.


رجـلان يتـأمّـلان القمــر للفنان الألماني كاسبـار ديفيـد فريـدريش


يمكن اعتباره هذه اللوحة نموذجاً لعالم فريدريش المسكون بحبّ الطبيعة لدرجة التقديس وبالميل للروحانية والتأمّل. وفيها نرى رجلين يرتديان ملابس سكّان المدن ويقفان بمحاذاة الطريق ويحدّقان في ضوء القمر الذي يلقي بوهجه الأرجواني على المكان. بينما بدت إلى اليمين شجرة سنديان ضخمة بأفرع أشبه ما تكون بمخالب كائن خرافي متحفّز للانقضاض والإطباق على فريسة.
المشهد يصوّر رفقة غامضة بين شخصين "أحدهما هو الرسّام نفسه والآخر أحد تلاميذه" من جهة، وبين الطبيعة من جهة أخرى. لكنه أيضا ينطوي على دعوة ضمنية للناظر لكي يدخل في الحالة المزاجية والشعورية ويتأمّل الأفق اللامتناهي ويستمتع بمشاهدة الحضور المسيطر والطاغي للقمر. ويقال إن سامويل بيكيت، الروائي والمسرحي الايرلندي، وقف مبهوراً أمام هذه اللوحة وهو يشاهدها للمرّة الأولى وأنه استوحى من أجوائها فكرة مسرحيّته المشهورة "بانتظار غودو".
فرديدريش، الذي يمثل مع غوته وبيتهوفن أضلاع مثلّث الرومانسية الألمانية، معروف بمناظره ذات القوّة الانفعالية الكبيرة والمضامين الصوفية والشاعرية التي تصوّر علاقة الإنسان بالطبيعة وقواها الروحية الغامضة.
وقد كان الفنان مفتوناً كثيراً بالقمر الذي ارتبط في عصر الرومانسية الأوربّي بالقصص الفولكلورية والأساطير وبالسحر والتوق والتأمّل الحزين وبحالات ما دون الوعي وبالخصوبة والأشباح، إلى غير ذلك من التصوّرات والانفعالات المختلفة والمتباينة.
وعندما حلّ عصر التنوير اكتسب القمر دلالات مغايرة فنُزع عنه الغموض نهائيا وفقدت صورته الرومانسية الكثير من سحرها وجاذبيتها مع ظهور الأفكار العقلانية والعلمية.
في ذلك العصر كان الرسّامون، ومنهم فريدريش، يركّزون على رسم الطبيعة باعتبارها عنصرا غامضاً ولا مبالياً ويتعذّر التنبؤ بما تفعل ناهيك عن استحالة السيطرة عليها أو ترويضها.
وسادت وقتها أفكار التصوّف وخواء الإنسان وعبثية الوجود وغير ذلك من التصوّرات النفسية المتشائمة والمظلمة. وكان الأدباء والرسّامون والشعراء يكثرون من الحديث عن القمر والليل والأحلام والعزلة والأرواح باعتبارها أكثر أهميّة من الشمس والنهار والنور وغيرها من الرموز التي تشير إلى الإدراك والتفكير الواعي والعقلاني.
ووجد الكثير من هؤلاء طريقهم إلى الغابات الواسعة وأحضان الجبال ومساقط الأنهار والشلالات يمارسون في رحابها التأمّل والعزلة والصلاة قرب أضرحة الرهبان والنسّاك والقدّيسين. وكانوا يرون أن ذلك يقرّبهم من الله أكثر من تعبّدهم في الكنائس والكاثدرائيات "التي لوّثها سخام المدن ونفاق رجال الدين"، على حدّ تعبير الفنان والفيلسوف وليام بليك الذي تجمعه بـ فريدريش نقاط شبه كثيرة.
لكن مع مجيء عصر التنوير تغيّرت الصورة وراجت الأفكار التي تتحدّث عن سيطرة الإنسان على الطبيعة وحتمية انتصار العقل على العاطفة والخرافة في النهاية.
ولـ فريدريش أكثر من لوحة يمكن اعتبارها تنويعاً على نفس فكرة هذه اللوحة. فالشخوص فيها لا يزيدون على اثنين في الغالب. وهما دائماً يعطيان ظهريهما للناظر ويبدوان كما لو أنهما يخطوان خارج الحيّز المكاني الذي يقفان فيه، أو كأنهما يبحثان عن شيء ناء لا يمكن بلوغه ويتبادلان حديثاً أشبه ما يكون بحديث الأرواح. هذا بالإضافة طبعاً إلى الحضور الدائم للقمر وأشجار السنديان وكذلك الأفق الذي يتعمّد الفنان جعله منخفضاً بشكل غير مألوف لإبراز قرب السماء وسيطرتها.
توفي فريدريش بعد عشر سنوات من رسمه هذه اللوحة، وقد مات فقيراً، وحيداً ومريضاً.
ولأنه لم يكن يملك مالا يسدّد به نفقات علاجه، فقد وهب هذه اللوحة لطبيبه الذي عالجه وقام على رعايته في الأيّام الأخيرة من حياته. وقد انتقلت اللوحة من مالك لآخر إلى أن استقرّت أخيرا في متحف المتروبوليتان بنيويورك.


امـرأة تقـرأ كتاباً قـرب نافـذة للفنان الفرنسي ديلفـن انجـوراس

كان ديلفن انجوراس رسّاما أكاديمياً وتلميذاً لـ جان ليون جيروم. ومع ذلك لا يكاد يتذكّره اليوم أحد. بل ربّما لم يسمع باسمه الكثيرون. غير أنه ما أن يُذكر اسمه حتى تتبادر إلى الذهن هذه اللوحة التي تعتبر، ليس فقط من أجمل لوحات انجوراس؛ وإنما أيضاً من أفضل الأعمال التشكيلية التي أنتجها الرسم الغربي عن فكرة "المرأة القارئة".
في اللوحة نرى امرأة شابّة تجلس على كرسي وتقرأ كتاباً أمام نافذة مفتوحة بينما ارتدت فستاناً زهرياً بأكمام قصيرة يتخلله وشاح طويل منسدل على الأرض. وإلى جوار النافذة هناك مزهرية ضخمة وُضعت فوق طاولة.
المرأة تبدو في حالة استغراق داخلي وعزلة عن العالم الخارجي، وتركيزها منصبّ كليّة على قراءة الكتاب وتعابيرها الهادئة والمسترخية ربّما تشي بأنها تقرأ كتاباً خفيفاً.
هذا المشهد لا يخلو من نعومة ورقّة وهو يذكّرنا إلى حدّ كبير بمناظر رينوار المليئة بالألوان الزاهية والتفاصيل المبهجة والأضواء المتوهّجة.
انجوراس كانت له رؤيته الخاصّة عن الحياة وعن الأنوثة بشكل خاص. ولوحاته في معظمها تصوّر عالما من الجمال والسحر والجاذبية لكنها تخلو من الأفكار والانفعالات العميقة والمركّبة. وقد كان مهتمّاً في الأساس بتصوير أوضاع ومزاج الطبقة البورجوازية في زمانه. وكان يميل إلى رسم نساء أنيقات وهنّ منهمكات في القيام بأنشطة منزلية مختلفة مثل القراءة والخياطة وتنسيق الزهور. وغالباً ما تظهر نساؤه بالقرب من مصباح أو نافذة.
أكثر ما يلفت الانتباه في هذه اللوحة براعة انجوراس في استخدام لمسات الفرشاة الناعمة واختيار ألوان دافئة ومتناسقة لدرجة انه يُخيّل للناظر أن الشخصية تكاد تذوب في الألوان المشبعة وفي تفاصيل الديكور من سجاد وستائر وخلافه.
وبعض لوحات الفنان الأخرى تصوّر نساءً عاريات ضمن توليفات ديكورية تتسم بحيويتها وشاعريتها وبألوانها الباذخة والأنيقة.
"المرأة القارئة" ثيمة تتكرّر كثيراً في الرسم الأوربّي والغربي عامّة كرمز لقدرة المرأة على التفكير وتثقيف الذات والمشاركة في إعادة تشكيل الحياة والتأثير الفاعل في المجتمع. ومع ذلك، كثيرا ما قدّمت الفكرة في إطار رومانسي وأحيانا حسّي.
وبالإضافة إلى أن الفكرة توضّح أهميّة الكتاب ومكانته في التاريخ البصري إجمالاً، فإنه يمكن اعتبارها سجلاً أو تأريخاً يوثق جانباً من مسيرة المرأة ونضالها في كسر القيود الضيّقة للحياة المنزلية ومحاولة الخروج إلى العالم الأوسع من اجل اكتساب المعرفة وتحقيق الذات في مجتمع يخضع تقليديا لسيطرة الرجل.
وبما أن الحديث عن فكرة المرأة والقراءة، تحسن الإشارة في الختام إلى لوحتين أخريين عن نفس الموضوع لا تقلان أهمّيةً في جمالهما وقوّتهما التعبيرية؛ الأولى: في بستان البرتقال لـ تشارلز بيروجيني Charles Perugini's In the Orangery، والثانية: امرأة تقرأ رسالة عند نافذة مفتوحة لـ يان فيرمير Jan Vermeer's Girl Reading a Letter at an Open Window.
كما استهوت الفكرة رسّامين آخرين مثل فراغونار وبيكاسو ومانيه وميري كاسات وغيرهم.


حــبّ متجـمّـد للفنان الفرنسي جـان بـول ايفيـس

بعض الأعمال التشكيلية تألفها العين وترتاح لها النفس بصرف النظر عن قيمتها الفنية أو الإبداعية. وهذه اللوحة مثال على ذلك.
وهي تعبّر عن رؤيا أو عن حالة ذهنية تأخذ الناظر إلى عالم خفي لم يسبق لأحد أن ارتاده وربّما لا نراه إلا في الأحلام أو حالات اللاوعي.
واللوحة مألوفة إلى حدّ كبير. وكثيرا ما تستهوي المواقع المخصّصة للأدب والشعر. وهي تنتمي إلى ما يسمّى بالرسم الرؤيوي، وهو جنس من الفن يحاول فيه الرسّام أن يرتفع فوق العالم الملموس والمشاهَد لكي يقدّم رؤيا أوسع للوعي مستمدّة من خبراته الذاتية؛ العاطفية والروحية والسيكولوجية والصوفية وغيرها.
في اللوحة نرى امرأة تجلس وحيدة على ما يشبه أطلال قلعة قديمة، في طقس توحّدي مع الطبيعة.
نظرات المرأة المستغرقة وتعابير وجهها تعطي انطباعا هو مزيج من التوق والانتظار والحزن. قد تكون بانتظار حبيب أو قريب أمعن في الغياب. وقد تكون المرأة جاءت إلى هذا المكان المثلج البارد كي تتلمس في رحاب الطبيعة ما يسلي النفس وينسيها مرارة تجربة حبّ قديم أو علاقة ما لم تكتمل.
التباين قوي ما بين الهيئة العصرية للمرأة وشكل المعابد والأعمدة التي ترمز لماضٍ موغل في القدم. وقد يكون الرسّام أراد من هذه المفارقة أن يوحي بأن ما يعتري الإنسان من مشاعر الفقد والحنين والحزن وغيرها من الأحاسيس المختلفة لها صفة أزلية وسرمدية لا تتأثر بتقادم الزمن أو تغيّر الظروف.
والطبيعة في اللوحة فانتازية إلى حدّ كبير. لكنها تظلّ هي الطبيعة التي تمنح - برحابتها وغموضها - الإنسان شيئا من العزاء وتوفر له وعدا بحياة جديدة تنبثق فيها شمس الأمل من جديد مبدّدةً بأشعتها سحائب اليأس والعتمة لتلتئم جراح النفس وتستعيد معها الروح بعضا من توازنها وهدوئها.
الألوان هنا جميلة ومتناسقة، والمنظر نفسه شاعري بامتياز. ولا يقلل من شاعريّته حقيقة أن طريقة لباس المرأة، التي تظهر عارية الصدر والكتفين، لا تتناسب كثيرا مع الطبيعة الثلجية والجوّ البارد.
كما لا يقلل من جمال اللوحة احتمال أن يكون الفنان قد وظف بعض تقنيات التصوير الرقمي والغرافيكس في رسم بعض تفاصيلها وأجزائها.
جان بول ايفيس رسّام فرنسي علّم نفسه بنفسه وأقام عدّة معارض في اليابان وأمريكا الشمالية وسويسرا. وقد أصبح اسماً معروفاً في أوساط الفن التشكيلي العالمي منذ العام 1990، أي بعد أن عرض بعض أعماله في غاليري بريستيج للفنّ بشيكاغو. وتكثر في لوحاته صور لنساء، وطيور، وورود، وفراشات، وغابات، وستائر ملوّنة، وأزهار لوتس، وكُرات كريستال، وساعات مفكّكة ومتناثرة قد تكون رمزا لسيولة الوقت ونسبية الزمن.
يقال أحيانا إن الفن الرؤيوي هو طريق الفنان للبحث عن رؤى ذاتية؛ باطنية وذهنية وبدائية، يعبّر عنها باستخدام لغة بصرية تعينه على رؤية ما لا يراه في الواقع.
وفي لوحات الفنانين الرؤيويين غالبا ما نرى صورا لممرّات غامضة، ومتاهات، وانكسارت ضوء، وطبيعة داخلية، وأقنعة، وهالات نور، وصخور، ومعابد، وطقوس سحر، وملائكة، وشياطين، وأطلال وبقايا حضارات سادت ثم بادت.. إلى آخره.
كما تتمحور لوحاتهم حول مواضيع وثيمات محدّدة مثل الجنّة والنار، والموت، والبعث، ورحلة ما بعد الحياة، والأبطال القدامى، والمستقبل البعيد، والماضي السحيق، والمخلوقات الأسطورية، والأماكن النائية والغامضة إلى غير ذلك.
ومن أشهر فنّاني الرؤيا القدامى وليام بليك وغوستاف مورو.
أما الرؤيويون المعاصرون فكثيرون، ومن أبرزهم مايكل فوكس Michael Fuchs، وأليكس غري، وبريجيد مارلين Brigid Marlin،Josephine Wall، وجيفري بيدريك، واندرو غونزاليس Andrew Gonzales، ومحمود فارشجيان Mahmoud Farshchian، وكيرك راينارت Kirk Reinert، وجوناثان باوزر، وغيلبيرت وليامز GilbertWilliams، وكريستوف فيشر Christophe Vacher، وجيك باديلي Jake Baddeley، وفريدون رسولي FreydoonRassouli وغيرهم.


طفل الجيوبوليتيك يراقب ولادة الإنسان الجديد للفنان الإسباني سلفـادور دالــي


إثر اندلاع الحرب العالمية الثانية هرب الكثر من الفنانين والأدباء الأوربّيين الى الولايات المتحدة الامريكية. وكان لـ سلفادور دالي سبب آخر في اختياره الهجرة يتمثل في الآثار المأساوية التي نتجت عن الحرب الأهلية الاسبانية.
وقد أقام دالي بصحبة زوجته غالا في نيويورك لمدّة ثمان سنوات. وأثناء مكوثه هناك تعرّف عليه الأمريكيون أكثر من خلال المعارض العديدة التي أقامها، وبالتالي أصبح اسمه أكثر شهرة وذيوعا.
وفي نيويورك رسم الفنان هذه اللوحة التي اختار لها اسما طويلا وغريبا: طفل الجيوبوليتيك يراقب ولادة الانسان الجديد". واستخدام مفردة "الجيوبوليتيك" في العنوان له دلالة خاصّة، فهي تشير ضمناً إلى النزعة الاستعمارية والهيمنة السياسية والعسكرية.
في اللوحة نرى بيضة ضخمة تأخذ شكل الأرض. وداخل البيضة هناك ما يفترض أنه طفل "هو في الواقع أقرب ما يكون للرجل" وهو يشقّ طريقه بعنف للخروج من البيضة تاركا وراءه خيطا سميكا من الدم.
وعلى يمين اللوحة تقف امرأة وهي تشير بيدها إلى الحدث المتجلي أمامها، فيما يتشبّث بساقيها طفل راح يراقب المشهد بهلع وذهول.
ومما يلفت الانتباه في اللوحة أن الرجل الخارج من البيضة يطبق بقبضته على ما يفترض أنه أوربّا، وإنجلترا على وجه الخصوص، في الخارطة.
ترى هل أراد دالي من خلال اللوحة التعبير عن وجهة نظر سياسية تجاه صعود نجم الولايات المتحدة بعد انتصارها مع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية؟
إن العنف الذي يرافق عملية الولادة في اللوحة والشراسة التي يبديها الطفل في سعيه للخروج وكأنه لا يأبه بتمزيق العالم في محاولته تلك، قد يكون تعبيرا عن توجّس دالي ونظرته غير المطمئنة إلى ظهور أمريكا كقوّة عظمى جديدة في العالم.
فالدم هو رمز لويلات الحرب التي عزّزت مكانة أمريكا ودفعت بها إلى الواجهة. والقبضة المطبقة على أوربّا تشي بهيمنة الوليد الجديد مستقبلا على حلفاء اليوم.
ويلاحظ أيضا أن دالي عمد إلى تضخيم قارة أفريقيا وكأنه يشير إلى الدور المتعاظم الذي ينتظر أن يلعبه العالم الثالث في السياسة الدولية.
من الواضح أن "طفل الجيوبوليتيك" مختلفة كثيرا عن غالبية لوحات دالي التي تتسم بسورياليتها وغموضها الشديد. فمضمون هذه اللوحة واضح إلى حدّ كبير، وهي تعود للمرحلة الكلاسيكية التي أنجز خلالها الفنان لوحات استمدّ موضوعاتها من التراث الاسباني ومن الرموز الدينية والأحداث والتطوّرات السياسية.
المرأة في اللوحة قد تكون رمزا للأمّ الطبيعية أي الأرض، لكنها لا تفعل شيئا حيال ما يجري سوى الانتظار. أما الطفل فربّما أراده دالي أن يكون رمزا للجماعات الإنسانية الأخرى والثقافات المتنوّعة التي تتمسّك بالأرض خوفا مما قد يحمله المستقبل من نذر ومخاطر نتيجة ولادة الطفل العنيف.
في وسط المشهد نرى ما يشبه المظلة، لكن من غير المتيسّر معرفة وظيفتها أو إلى ماذا ترمز. كما أن من المتعذّر معرفة السبب الذي دفع الرسّام إلى جعل ظل الطفل أطول من ظلّ المرأة في اللوحة.
بالنسبة لـ دالي، كان لحادثة إسقاط الامريكيين القنابل النووية على اليابان أثر مهم في دفعه لاستكشاف طرق وأساليب فنية جديدة. ويقال انه كان مفتونا بقوّة الذرة وقدرتها التدميرية الهائلة وبالتطوّر الذي حققته العلوم الحديثة وخاصّة الفيزياء.
وفي تلك الفترة بدأ في استخدام اسلوب جديد أطلق عليه "الغموض النووي" ومزج فيه بين عناصر علمية وأخرى غامضة ليعبّر من خلاله عن ما كان يسمّيه بـ "القوّة المقدّسة".
"طفل الجيوبوليتيك" لوحة مثيرة للتفكير والتأمّل. وهي تحتمل أكثر من معنى. وقد قيل في بعض الأحيان إن الرجل الخارج من البيضة يمثل روح العصر الجديد أو الإنسان الجديد.
بعض الأوربيين، مثلا، كانوا يرون أن الحرب العالمية الثانية كانت نقطة تحوّل كبرى في المسيرة الإنسانية وفي طبيعة النظام الذي يحكم العالم. فقد فتحت الحرب الأعين على مساوئ النظام العالمي الذي كان سائدا آنذاك والذي انكسر وانهار بفعل الحرب. وكان ثمّة مفكرون وفلاسفة كثر يبشّرون بقرب ولادة الإنسان الحديث الذي سينهض من رماد الحرب ليتولى المسئولية السياسية والأخلاقية عن العالم فيصلح أوضاعه ويرمّم العلاقة بين أطرافه المتنافرة وصولا الى مرحلة يعمّ فيها السلام والاستقرار بدلا من التوتّرات والحروب.


سيمفـونيـة الـرعـاة للفنان الإيطالي جـورجيـونـي

يعتبر جورجيوني الرسّام الأكثر غموضا في تاريخ الفن الأوربّي. إذ لا يُعرف عنه أو عن حياته الكثير. غير أن العديد من النقاد يتفقون على أنه كان شخصية متميّزة في زمانه. وبالإضافة إلى كونه رسّاما، كان جورجيوني شاعرا وأديبا وموسيقيا وكان مقرّبا من أوساط النبلاء والعائلات الأرستقراطية في فينيسيا.
و"سيمفونية الرعاة" ليست إحدى أجمل لوحاته فحسب، بل وإحدى التحف الفنية الكبيرة التي أنتجها عصر النهضة الإيطالي. ويقال إن تيتيان، تلميذ جورجيوني وأقرب أصدقائه، أكمل رسم هذه اللوحة بعد وفاة جورجيوني المفاجئة عن عمر لا يتجاوز الرابعة والثلاثين. وليس مستغربا أن تُنسب اللوحة أحيانا الى تيتيان بالنظر الى التشابه الكبير بين أسلوب الإثنين.
موضوع اللوحة هو امتداد للفكرة اليونانية القديمة عن "أركاديا" وعن تقاليد الحياة الرعوية والريفية، حيث يتعايش الإنسان مع الطبيعة جنبا إلى جنب في وئام وانسجام. وقد بُعثت هذه الفكرة من جديد في المراحل الأخيرة من عصر النهضة وبدايات عصر الباروك.
وكان من عادة الفنانين في ذلك الوقت رسم مناظر لطبيعة مثالية تصوّر حياة الرعاة، لكنها لا تخلو من أفكار ترمز للأدب والشعر والموسيقى والربيع والجمال والحبّ والحقيقة. وغالبا ما يتم توظيف شخصيات خيالية وأسطورية مثل الآلهة والحوريّات اللاتي يظهرن إما عاريات أو مرتديات ملابس كلاسيكية.
في مقدّمة اللوحة نرى أربعة أشخاص: رجلين بملابس أنيقة وامرأتين عاريتين. الرجلان يبدوان كما لو أنهما يجريان تدريبات على الموسيقى.
وإلى اليمين تجلس إحدى المرأتين وظهرها للناظر بينما تمسك بآلة ناي. في حين تنشغل الأخرى، إلى اليسار، بملء إناء زجاجي شفاف من مياه حوض.
وثمّة احتمال بأن يكون الماء والزجاج رمزا للصفاء والنقاء اللذين ينظر إليهما كتجسيد لحقيقة الفن.
من الواضح أن الرجلين لا يهتمّان كثيرا بوجود المرأتين. وهذا يطرح سؤالا عن حقيقة وجودهما، إذ قد تكونان مجرّد صورة ذهنية، أي أنهما لا توجدان سوى في خيال الرجلين.
وربّما أرادهما الرسّام رمزا للإلهام أو الإبداع. وقد يكون حضورهما في اللوحة استدعاءً لبعض الأساطير القديمة التي تتحدّث عن الحوريات اللاتي يجتذبهن سحر الموسيقى وجمال الأنغام.
في المشهد ليس هناك ما يدلّ على حوار أو تبادل للكلام. والاتصال بين الشخصيات الأربع يتم فقط من خلال الموسيقى والعزف.
وفي خلفية اللوحة نرى راعيا بمعيّة قطيعه ومنزلا يقوم على ربوة تعلوها سماء غائمة.
ورغم غموض هذه اللوحة فإنها تروق للعين والمشاعر. فالألوان فيها دافئة والأضواء ناعمة. ومن الواضح أن جورجيوني لا يعير اهتماما كبيرا بالخطوط بل يركّز على مناطق اللون. كما أن المنظر الضبابي للتلال في الخلفية يعطي المشهد عمقا، ما يذكّرنا بمناظر دافنشي الحالمة.
ومن التفاصيل الأخرى التي تجذب الانتباه في اللوحة أسلوب الرسّام المتفرّد في تمثيل الأضواء الذهبية المشعّة وفي تعامله مع عنصري الضوء والظل.
ويمكن القول إن "سيمفونية الرعاة" نموذج لمناظر عصر النهضة التي تصوّر أجواءً رعوية حالمة لا تخلو أحيانا من إحساس بالحزن والتوق الممزوج بشيء من الغموض والشاعرية.
والمتمعّن في تفاصيل اللوحة لا بدّ وأن يتذكّر لوحة مانيه المشهورة غداء على العشب Manet's Luncheon on the Grass، التي قد يكون الفنان الفرنسي رسمها وفي ذهنه لوحة جورجيوني.
كان جورجيوني مشهورا بوسامته اللافتة وحضوره الطاغي. وقد تتلمذ على يد بلليني وكان الاثنان، بالإضافة إلى تيتيان، يمثلون نخبة رسّامي فينيسيا في نهايات القرن الخامس عشر وبدايات السادس عشر.
ويعتبر كتاب جورجيوني للكاتب هيربرت كوك من بين أفضل المراجع التي تتحدّث عن حياة وأعمال هذا الفنان وتسلّط الضوء على إسهامات فينيسيا في فنّ عصر النهضة الإيطالي.


إنعكـاس، بورتـريه شخـصـي للفنان البريطاني لـوسيـان فـرويـد

بعض النقاد يعتبرون لوسيان فرويد أعظم الرسّامين البريطانيين الأحياء. وفرويد ينحدر من عائلة ألمانية يهودية عريقة. فجدّه هو الطبيب وعالم النفس الشهير سيغموند فرويد. ووالدته تنتمي إلى أسرة من التجّار وأرباب الأعمال.
ولد فرويد في برلين عام 1922م. وعندما جاء هتلر إلى الحكم أصبحت أوضاع اليهود في ألمانيا لا تطاق. فقرّرت العائلة الهجرة إلى بريطانيا والإقامة فيها نهائيا.
وأعمال لوسيان فرويد تكتسب أهمّية خاصّة لأنها مرتبطة بزمن الحرب وبتبعات الحقبة النازية. ولوحاته تمتليء بصور لرجال ونساء عراة في مواقف وأوضاع شتّى.
وقد قيل في إحدى المرّات أنه بقدر ما كان سيغموند فرويد مهتمّا بدراسة النفس وسبر أغوارها، بقدر ما أن حفيده مهجوس بالجسد. وهناك حضور شبه دائم للكراسي في لوحاته. ويبدو أن اهتمامه بالكراسي والأرائك يستمدّ مغزاه من قرب هذه الأشياء من اللحم الإنساني الذي يشكّل لفرويد مصدر قلق وتفكير دائمين.
وعندما نتمعّن في لوحاته التي تصوّر نساءً عاريات نكتشف أن لا علاقة لها بالجنس أو الإيروتيكية. فالجلد سميك متغضّن والعظام نافرة والأطراف منهكة والأعين جامدة والوجوه حزينة وباردة.
وحضور النساء في اللوحات يتسمّ بالغموض والتشظي، وملامحهن إجمالا لا تثير في النفس سوى شعور بالتوتّر الذي لا يوصف وبالعزلة المتعبة وبالاستلاب المضني.
في إحدى لوحاته القديمة، نرى امرأة شابّة بنظرات شاحبة وهي تمسك بقطّة صغيرة من رقبتها. ورغم خلوّ تعابير المرأة من أي أثر للعدوانية أو العنف، فإن المنظر يوحي كما لو أن المرأة توشك أن تقتل القطّة خنقا.
من أشهر لوحات لوسيان فرويد هذا البورتريه الذي رسمه لنفسه في سنّ الرابعة والستّين، أي عندما كان في ذروة نضجه الفنّي. واللوحة ليست "بورتريه" شخصّيا بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هي صورة الفنان كما تبدو منعكسة في مرآة، بحسب ما يشير إليه العنوان.
تعابير الوجه هنا صارمة، والنظرات قاسية، قلقة، ومتوتّرة مثل نمر متحفّز. إنه نفس أسلوب فرويد الذي يتّسم بالعنف والوحشية والصدمة. ومن الملاحظ أنه استخدم في اللوحة ضربات فرشاة سميكة وسكب على القماش طبقات كثيفة من الطلاء. ومن بين كتل الألوان الخام والمشبعة نلمح في الوجه آثار رضوض وندوب، كأنما يعطي الإحساس بقسوة الحياة التي لا تني تعاقبنا وتجعلنا نبدو عراة، مكشوفين، ضعفاء ووحيدين.
وفرويد يفعل هذا بواقعية شديدة وبمزاج مشبع بالوحدة والانقباض.
يقول أحد أصدقائه إن من عادة فرويد أن يرتدي في محترفه ملابس تناسب مواضيع صوره، وهو يباشر عمله في الرسم بزيّ جزّار مسلّح بالمناشير والفوط والسكاكين.
ولا يبدو الفنان مهتمّا بإظهار الجمال في أعماله إلا بقدر ما يرى في القبح والدمامة ضربا من الجمال. كما لا يعنيه أن يصوّر الجوانب الإنسانية التي تعبّر عن السعادة والأمل والنبل والتفاؤل.
ويمكن القول أن السمة الغالبة على لوحات فرويد هي كونها ذات مضامين سيكولوجية ووجودية، وهو أمر يؤهله لأن يكون رسّاما "فرويديا" حتى النخاع.
فالكثير من لوحاته مزعجة وتعطي شعورا بجدب الحياة ووحشتها وهشاشتها. وكلّ شخصية لها فضاؤها الوجودي الخاص والمستقل. وليس هناك اتصال بين الشخصيات، إذ لا أحد ينظر إلى الآخر مباشرة، ونادرا ما يعترف أحد بوجود الآخر. وفي غالب الأحيان تظهر الشخصيات كما لو أنها مشدودة إلى أسفل بفعل قوّة خفيّة وغامضة.
ومن الواضح أن فرويد يتعمّد دائما تصوير الغرف بحيث تخلو من أي أثر للتكنولوجيا أو لوازم الحياة اليومية الأخرى، وكأنها - أي الغرف – فضاءات خاصّة ومنعزلة توفر للشخوص فيها ملاذا مريحا وآمنا يحميها من فظائع وتعاسات العالم الخارجي.
مما يجدر ذكره في الختام أن فرويد يقترب اليوم من عامه السادس والثمانين. وهو أب لأربعين طفلا أنجبهم من علاقاته العابرة مع عدد من النساء من بينهن بعض "موديلاته". ومؤخّرا إبتاع مليونير روسي لوحته المسمّاة "مديرة المتجر النائمة Benefits SupervisorSleeping والتي تصوّر امرأة بدينة عارية بمبلغ 34 مليون دولار أمريكي. كما بيعت لوحتة الأخرى "على خُطى سيزان AfterCézanne " بمبلغ ثمانية ملايين دولار.

"

بورتـريه البابـا اينوسنـت العاشـر للفنان الإسباني دييـغـو فـيلاســكيــز

من المفارقات الغريبة أن هذا البورتريه، الأخّاذ والرائع والمشهور جدّا، يصوّر إحدى الشخصيات التاريخية التي عُرف صاحبها بصرامته وقسوته بالإضافة إلى دوره المهمّ في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية والعالم.
وقد قيل غير مرّة أن هذا البورتريه ليس فقط أروع عمل فنّي أنجز خلال القرن السابع عشر، وإنّما أفضل صورة شخصية تمّ رسمها في جميع العصور.
وأحد أسباب شهرة البورتريه هو انه يقدّم تصويرا بليغا وصادقا لطبيعة السلطة الدينية المطلقة والمتجسّدة في شخصية البابا اينوسنت العاشر. كما يمكن اعتباره دراسة بصرية محكمة عن قوّة الشخصية كما تعبّر عنها الملامح والتعابير وطريقة اللباس.
رسم فيلاسكيز البورتريه أثناء زيارته الثانية لروما وذلك بتكليف من اينوسنت. وكان عمر البابا في ذلك الوقت 75 عاما.
وبعد إتمام اللوحة أبدى بعض رجالات الفاتيكان تخوّفهم من احتمال أن يواجه فيلاسكيز غضب البابا، إذ أن البورتريه يصوّره بملامح صارمة ونظرات قاسية ومتجهّمة.
لكن البابا استقبل الفنان بحفاوة وأعلن سروره البالغ باللوحة قائلا إنها واقعية بأكثر مما ينبغي. ثم أمر بتعليقها في صالة استقبال الضيوف الرسميين، وأهدى فيلاسكيز ميدالية وسلسلة من ذهب تقديرا له واعترافا بموهبته.
واللوحة تبيّن بوضوح أيّ صنف من الرجال كان البابا.
كان اينوسنت العاشر شخصا طويلا، نحيلا، بوجه متورّد وحواجب كثة.
كما كان شديد المراس ذا مزاج حارّ ومتقلب وعنيف.
وهو يظهر في اللوحة جالسا على كرسي من المخمل الأحمر الموشّى بزخارف ذهبية، ومرتديا لباسا أبيض ووشاحا أحمر وغطاء رأس بلون داكن.
النظرات مفترسة والعينان متفحّصتان تشعّان بالذكاء المشوب بقدر غير قليل من الشكّ والتوجّس.
وليس ثمّة شكّ في أننا أمام رجل يعرف سلطته جيّدا، قويّ، ذي حضور دائم وربّما عنيف، واثق من نفسه كثيرا ومسيطر تماما على ما حوله. إنه رجل سلطة دينية ودنيوية معا، يقرأ الرسائل باهتمام ويصرّف أمور البلاد وينتظر بصبر أن يمتنع رعاياه عن التفكير في الخطيئة وأن يقرّ الخاطئون بذنوبهم كي يمنحهم بركته ويمنّ عليهم بصكوك الغفران التي تعدهم بالخلاص والجنّة.
كان البابا في ذلك الزمان أقوى رجل في العالم، وكان له من السلطات والصلاحيات ما لا يحلم به اليوم أكثر حكّام العالم سلطوية واستبدادا. وقد عُرف عن اينوسنت العاشر دهاؤه وسرعة بديهته وإتقانه فنون الحيل والمناورات السياسية. وعندما اختير للبابوية عام 1644 تضاعفت سلطة الفاتيكان الزمنية أكثر فأكثر، رغم أن تبوّءه للمنصب جاء في أعقاب أزمة عاصفة بين ثلاث عائلات دينية كانت كلّ منها تدّعي أنها الأحقّ بالمنصب.
من السمات اللافتة في هذا البورتريه تعامل الرسّام مع الألوان بطريقة تنمّ عن إبداع قلّ نظيره: التطريز والزخرفة، البراعة في المزج بين الألوان القرمزي والبنّي واللحمي والأحمر لإنتاج جوّ يشي بالهيبة والفخامة، اللمعان والوهج المنعكس على محتويات المكان، الطيّات الدقيقة التي تتخلل الرداء الحريري الأبيض البارد، التأثير الدراماتيكي والنشط للأحمر بدرجاته وظلاله المتفاوتة، وأخيرا وليس آخرا الخاتم الأسود المشعّ في يد البابا التي تبدو خلافا للمتوقع ذات تقاطيع أنثوية ناعمة.
طوال فترة حكمه، كان اينوسنت العاشر واقعا تحت سيطرة "اوليمبيا" أرملة أخيه التي كان قد عيّنها مستشارة له وحافظة لأسراره. ويبدو انه بحث كثيرا بين أقاربه عمّن يمكن أن يساعده في إدارة شئون البلاد فلم يجد غير هذه المرأة.
كان نفوذ اوليمبيا على اينوسنت كبيرا جدّا، ما أدّى إلى ظهور شائعات غير مؤكّدة عن علاقة عاطفية كانت تربط بين الاثنين. لكن المؤكّد هو أن مكانة اوليمبيا القويّة في البلاط لم تؤدّ سوى إلى استشراء الفساد والطمع والمحسوبية في أوساط المقرّبين من البابا.
وعندما توفي اينوسنت عام 1655 لم تحضر اوليمبيا جنازته، لأنها كانت منهمكة في نهب كنوز ونفائس القصر البابوي.
إن المتأمّل في تفاصيل هذا البورتريه لا بدّ وأن تستوقفه الطبيعة الفاتنة لهذا الرجل برغم نظراته القويّة والمتحدّية. إنه يبدو صامتا، متحفظا بل ومجاملا إلى حدّ ما. ويظهر أن وسامته تكمن بالأساس في حضوره الطاغي والمسيطر.
في عهد اينوسنت العاشر، واسمه الأصلي جيوفاني بامفيلي، أبرمت اتفاقية ويستفاليا للسلام التي وضعت نهاية لحرب الثلاثين عاما. غير أن اينوسنت رفض التوقيع على الاتفاقية لأنها نصّت على حقّ رعايا كلّ دولة في أن يتمتعوا بحرّياتهم الدينية الخاصّة، الأمر الذي كان يعني ضمنا تقليص دور الكنيسة الكاثوليكية وإضعاف سلطتها.
وفي نفس الوقت عمل اينوسنت على إطالة أمد الحرب الأهلية بين الانجليز والايرلنديين. كما دعم مذابح المسيحيين ضدّ اليهود في بولندا. وفي عهده أيضا استمرّت طقوس مطاردة وحرق الساحرات في أوربا. ويقال أنه، هو وعائلته، اشتغلوا بتجارة شراء وبيع العبيد بالتعاون مع العرب.
في العام 1953، رسم الفنان الايرلندي فرانسيس بيكون Francis Bacon سلسلة لوحات استلهم موضوعها من لوحة فيلاسكيز. وفي إحدى اللوحات يظهر البابا اينوسنت محشورا داخل قفص وهو يصرخ. ومن الواضح أن القفص يشبه كثيرا الغرف التي يُعدم بداخلها المجرمون صعقا بالكرسي الكهربائي، ما يوحي بأن بيكون يرى أن اينوسنت كان يجب أن يوضع خلف القضبان.
يقول بعض مؤرّخي الفنّ إن دييغو فيلاسكيز وصل من خلال هذا البورتريه إلى أعلى ذرى الكمال والنضج والإبداع الفني.
ولا بدّ وأنه كان سعيدا جدّا بهذا العمل، بدليل أنه حرص على أخذ نسخة منه قبل عودته من روما إلى اسبانيا.
وتوجد اليوم نسخ كثيرة من هذه اللوحة تتوزّع على العديد من متاحف وغاليريهات العالم الرئيسية، بينما تستقرّ اللوحة الأصلية في غاليري دوريا بامفيلي في روما.


تمثـال النصـر المجنـّح القرن الثالث قبل الميلاد

يعتبر هذا التمثال واحدا من أشهر الأعمال النحتية في العالم والتي تعود إلى الحقبة الهيلينستية. وهو يقدّم صورة مجازية عن النصر أبدعتها مخيّلة نحّات عبقري شاء القدر أن يظلّ اسمه مجهولا.
وقد اكتشفه عام 1863 قنصل فرنسا في اليونان، وكان عالم آثار ومؤرّخا، ثم أرسله في نفس السنة إلى باريس حيث ظلّ في متحف اللوفر منذ ذلك الحين.
وفي ما بعد، أي في خمسينات القرن الماضي، أرسل الفرنسيون بعثة أثرية إلى جزيرة ساموتراكي اليونانية، حيث اكتشف التمثال لأوّل مرّة، في محاولة للبحث عن الأجزاء المفقودة منه.
لكن لم تعثر البعثة سوى على أجزاء من اليدين والأصابع في حين بقي مكان الرأس مجهولا حتى اليوم.
هذا التمثال الضخم منحوت بالكامل من المرمر، وهو يصوّر آلهة النصر الإغريقية Nike التي تأخذ هيئة امرأة تقف على قاعدة من الحجر تشبه هيكل سفينة.
والطريقة التي أنجز بها التمثال تدلّ على براعة النحّات الذي صنعه وعلى عناصر الإبداع والإحكام والجمال التي أودعت فيه.
ويقال إن التمثال كان رمزا لانتصار احد قادة الإغريق في معركة بحرية خاضها ضدّ أعدائه حوالي بدايات القرن الثالث قبل الميلاد.
وقد جلبت حجارة التمثال من جزيرة باروس اليونانية التي اشتهرت بتشكيلاتها الحجرية وجودة رخامها. وعندما تمّ الانتهاء منه وضع على صخرة عالية تطلّ على معبد كبار الآلهة من جهة وعلى البحر من جهة أخرى.
تبدو المرأة في التمثال بقوام فارع وجناحين عريضين وجسد مندفع إلى الإمام، بينما تطاير رداؤها الشفاف بفعل ما يفترض أنه قوّة الرياح التي تقف بمواجهتها.
براعة النحّات هنا واضحة من خلال طريقته في رسم الخطوط وتشكيل النسيج وأسلوبه في تمثيل طيّات الرداء وانثناء جسد المرأة إلى الأمام.
ومن العناصر الأخرى ذات التأثير الصوري الأخّاذ في هذا التمثال طريقة الوقوف الدرامية والتكثيف الحركي، ما يثير إحساسا بالجلال والفخامة.
ولا بدّ وأن يتخيّل المرء أن رأس المرأة المفقود كان ذا ملامح جميلة وأنها ربّما كانت تنفخ بفمها آلة نفير وتحمل في أحد ذراعيها إكليل غار أو غصن زيتون تتوّج به أعناق المنتصرين.
كان قدامى اليونان مغرمين كثيرا بالتنافس في ميادين الحروب والرياضات المختلفة. لذا كان وجود الآلهة ضروريا وله ما يبرّره، باعتبارها ملهما للفوز ومحفّزا على تحقيق الانتصار.
لكن ليس من الواضح لماذا كانوا يصوّرون النصر دائما على هيئة امرأة.
قد يكون احد الأسباب أن المرأة أكثر قدرة على استثارة الرجال وبثّ العزيمة والحماس في نفوسهم.
بقيت الإشارة إلى أن اسم آلهة النصر Nike أصبح ماركة مسجّلة لإحدى أشهر شركات صناعة الأحذية والملابس الرياضية في العالم.
كما أن الفنان الأمريكي Abbott Thayer استلهم طريقة حركة المرأة في التمثال وكذلك شكل جناحيها في رسم كبرى بناته الثلاث كما يظهرن في لوحته المشهورة عذراء ..


منظــر لـ طـليطـلــة للفنان الاسبـاني إل غــريـكــو

رسم إل غريكو هذه اللوحة قبل أكثر من أربعة قرون. وما تزال تعتبر، إلى اليوم، واحدة من أعظم الأعمال التشكيلية التي تصوّر السماء.
وهناك من يشبّهها بلوحة فان غوخ "ليلة مرصّعة بالنجوم" من حيث القوّة التعبيرية، وبالنظر إلى تماثل الأجواء في اللوحتين، حيث السماء الداكنة بفعل الغيوم المظلمة والكثيفة.
إل غريكو، المولود في جزيرة كريت باليونان، عاش طوال حياته في طليطلة.
ويبدو انه أراد تخليد مدينته من خلال هذه اللوحة التي تعتبر، مع لوحة أخرى، العملين الوحيدين اللذين رسم فيهما منظرا طبيعيا.
من أهم سمات هذه اللوحة اللمسة الانطباعية التي تميّزها، مع أن المدرسة الانطباعية في الرسم لم تظهر إلا بعد أكثر من مائتي عام على وفاة إل غريكو.
وهو أمر يدلّ على انه كان سابقا لعصره، من حيث ميله لتطبيق أساليب فنية ثورية وتجديدية.
وهناك أيضا الاستخدام الأخّاذ والمبتكر للألوان الثريّة والمتموّجة والصاخبة.
وممّا يسترعي الانتباه أيضا في اللوحة الطريقة التي رسم بها الفنان السماء المظلمة والضوء الذي بدا غامضا وهو ينبثق من وسط السحاب الداكن المدلهم مثيرا شعورا بالروحانية والقداسة.
وربّما كان إل غريكو أراد أن يعكس في اللوحة مشاعره الروحية الخاصّة. إذ المعروف انه كان شخصا تقيّا، وطليطلة كانت في ذلك الوقت العاصمة الدينية لاسبانيا.
والمتمعّن في تفاصيل اللوحة لا بدّ وأن يستشعر اهتزاز الطبيعة فيها وسحر الوهج الفضّي المشعّ الذي تعكسه البيوت التي بدت من بعيد أشبه ما تكون بشواهد القبور. وممّا يعزّز هذا الإحساس حقيقة أن المشهد يخلو من أيّ وجود للبشر.
يقال إن طليطلة لم تتغيّر كثيرا منذ رسمها إل غريكو. حيث لا تزال الكاثدرائية والجسر الروماني وقصر الكازار وغيرها من المباني على حالها.
مع أن الرسّام تعمّد تغيير مواقع بعض تلك المعالم لضرورات فنية على ما يبدو.
ظاهريا، يمكن اعتبار هذه اللوحة مجرّد منظر لمدينة في عاصفة، أو محاولة لتصوير قوى الطبيعة.
وبعض النقاد يشبّهها بقصيدة شعر، بالنظر إلى حمولتها الدرامية والشاعرية المكثفة.
لكن هناك من يعتقد بأن اللوحة محمّلة بالكثير من المعاني والاستعارات.
هناك، مثلا، من يرى بأنها لوحة دينية تصوّر حوارا صامتا بين السماء والأرض.
بينما قيل في بعض المرّات إن إل غريكو قد يكون رسم هذا المشهد العاصف والمظلم كنذير شؤم وعلامة احتجاج ضمني على ممارسات محاكم التفتيش الاسبانية.
وعلى غرار ما كان يفعله في الكثير من لوحاته، لم ينس إل غريكو أن يوقّع اسمه بالأحرف اليونانية إلى أسفل يمين اللوحة.


ديكـور منـزلـي وامـرأة شـابـّة للفنـان الدانمـركي وليـام هَمَـرشُـوْي

ترتبط الدانمرك في الأذهان بجملة من الأشياء والانطباعات. ففيها أقدم نظام ملكي في العالم. وهي بلد قبائل الفايكنغ والملك هاملت والكاتب هانس كريستيان اندرسون والفيلسوف الوجودي كيركغارد. كما أنها بلاد شمس منتصف الليل وتمثال عروس البحر الصغيرة وليالي الشتاء الباردة والطويلة بما تثيره من إحساس بالحزن والوحدة والكآبة.
ومن بين من كتبوا عن الدانمرك الأديب البريطاني في إس نيبول الحائز على جائزة نوبل للأدب والذي أقام في الدانمرك فترة.
يقول: إذا كنت مهتمّا بالذهاب إلى مكان مرعب فأوصيك بالدانمرك. هناك لا أحد يجوع، والناس يعيشون في بيوت صغيرة وجميلة. لكن لا احد غنيّ. ولا أحد يملك فرصة أن يعيش حياة باذخة. وكلّ شخص مكتئب!
إنهم يعيشون في زنازين محكمة التنظيم مع مفروشاتهم الدانمركية ومصابيح الإضاءة الأنيقة التي بدونها يمكن أن يصابوا بالجنون".
وبصرف النظر عمّا إذا كان كلام نيبول صحيحا أو أن فيه شيئا من المبالغة الساخرة، فإنه يمكن القول إن لوحات وليام همرشوي، أكبر وأشهر رسّام دانمركي بل واسكندينافي، تقدّم صورة واقعية إلى حدّ كبير عن طبيعة الحياة في الدانمرك. كما أنها تشكّل انعكاسا لشخصية هذا الفنان ونمط شخصيته. فقد كان همرشوي إنسانا خجولا، متكتّما وغامضا مثل لوحاته. وبخلاف هذا، لا تتوفر الكثير من المعلومات عنه. لكن من المرجّح أنه عاش حياة مريحة بفضل خلفيته البورجوازية واشتغال والده بالتجارة.
وأجواء رسوماته تذكّرنا بلوحات مواطنه الفنان كارل هولسو Carl Holsoe وبلوحات كلّ من يوهان فيرمير وإدوارد هوبر.
في هذه اللوحة الجميلة يرسم همرشوي زوجته "آيدا"، وهي بنفس الوقت الموديل التي تظهر في جميع لوحاته.
وهي هنا تبدو واقفة وظهرها للناظر، أي أننا لا نرى ملامح وجهها ومن ثمّ يصعب التعرّف على طبيعة انفعالاتها في تلك اللحظة.
لكن بوسع المرء أن يكتشف أننا أمام منظر ينفتح على عالم من الصمت والسكون ويثير إحساسا بالعزلة والتذكّر الحزين.
حتى الديكور نفسه ساكن، بارد ومنعزل. والألوان في اللوحة هي ألوان همرشوي المفضّلة دائما، أي ذلك المزيج المتدرّج والناعم من الرمادي والأسود والأبيض.
ورغم أناقة هذه الألوان وتناغمها الرقيق والشائك، فإنها لا تعمل إلا على تعميق الإحساس بالهجر والانفصال والكآبة.
لكن المشهد شاعري وحالم إلى حدّ ما. تنظر إلى هذه المرأة، بجسدها الضئيل وفستانها الداكن وانحناءة رأسها الخفيفة، فيخيّل إليك أنها تعيش في عالم آخر يتجاوز حدود الفضاء الفيزيائي الضيّق الذي تقف فيه.
ومع ذلك، فهي تبدو مطرقة، حزينة، جامدة وشاردة الفكر.
قد يكون السبب أنهما - أي الفنان وزوجته - لم يرزقا بأطفال أبدا. ويقال إن همرشوي تزوّج "آيدا" كي يستنقذها من معاملة والدتها التي كانت تعاني من اضطرابات سلوكية.
وهناك احتمال بأن تكون قد ورثت عن أمّها ذلك الجانب المظلم من شخصيّتها.
ومع ذلك كانت العلاقة بين الزوجين تتسم دائما بالمحبّة والدفء والألفة.
ويقال أنها وقفت إلى جانبه بتفان وإخلاص عندما أصيب بالسرطان، واستمرّت تلازمه وترعاه حتى وفاته في سنّ الحادية والخمسين.
وقد أنجز الفنان جميع لوحاته في نفس المنزل الذي عاشا فيه طوال حياتهما.
وما يزال البيت قائما إلى اليوم، لكنه أصبح في عهدة مالك آخر.
كان همرشوي مهتمّا في لوحاته، وبشكل خاص، بتمثيل الضوء الذي كان يرى انه يمنح الأشياء الجامدة حياة ويخلع عليها هويّة وكينونة خاصّة بها.
وافتتانه بالضوء ليس بالأمر الغريب أو المفاجئ. فمعظم رسّامي شمال أوربّا كانوا يرون في الضوء نوعا من الاحتفاء بالحياة وانبعاث الأمل. وكانوا مغرمين برسم تلك اللحظات العابرة التي تشرق فيها الشمس مشيعة بعض الحرارة والدفء قبل أن يخيّم الظلام والبرد مرّة أخرى ومعهما ذلك الإحساس الغامض الثقيل بالحزن والانقباض.
وفي العديد من لوحاته، نرى نفس المرأة إمّا واقفة أو جالسة بهدوء وهي تؤدّي بعض الأعمال المنزلية. وكثيرا ما تظهر صورة لآلة بيانو ولوحة معلقة بطريقة أنيقة على الجدار. في حين تأخذ الملابس والديكور والمعمار بعض سمات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وفي بعض أعماله الأخرى نلمس إحساسا عظيما بالفراغ، عندما يرسم مناظر لغرف خالية إلا من تأثير الضوء المتسرّب عبر النوافذ والمنعكس على ذرّات الغبار المتطايرة، وبعض الأثاث الذي يبدو بسيطا متقشفا. ولطالما اعتقد همرشوي أن الغرف تنطوي على جمال متأصّل وخاصّ حتى مع عدم وجود بشر فيها، وربّما بالتحديد عندما لا يكون فيها بشر.
ومن خصائص لوحاته أنها محدودة الأبعاد، أحادية اللون وكثيرا ما تستعصي على التفسير. لكنها مع ذلك مثيرة للاهتمام بطبيعتها الشاحبة وجمالها اللامع.
وهناك من النقاد من يصفون لوحاته بأنها قصائد صامتة. ويصحّ القول أنها نوع من الجمال الحزين أو الحزن الجميل.
ومن الواضح أن مشاهده الساكنة والحزينة هي نتاج عفوي ومباشر لروحه ومشاعره الشفافة، أكثر من كونها مستندة إلى نظريات أو أطر فنية معدّة مسبقا.
وفي السنوات الأخيرة، ازداد الاهتمام بـ همرشوي ولوحاته، وتضاعف ذلك الاهتمام أكثر إثر قيام تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية بإنتاج برنامج وثائقي نادر عن الفنان وأعماله.
إن ثمّة شيئا ما غامضا يجذب الإنسان إلى لوحات همرشوي بتفاصيلها الغريبة وألوانها الهادئة والمحايدة. شيء ما أعمق بكثير من مسألة الشكل والتكنيك أو الأسلوب الفني الذي يوظفه في أعماله.
ومن المحزن أنه لم يترك وراءه أي مذكّرات أو كتابات يتحدّث فيها عن نفسه بعد أن أتلف مجموعة رسائله الخاصة قبيل وفاته عام 1916م. ولعله فعل هذا متعمدّا كي لا يتعرّف عليه الناس مباشرة، بل يكتفوا بالبحث في لوحاته عن مفاتيح وإشارات قد تدلّهم على طبيعة شخصيّته وأفكاره ونظرته للحياة.
إن من يتأمّل مناظر همرشوي ويتمعّن في ألوانها المرهفة وتفاصيلها البديعة، لا بدّ وأن يعجب به ويتعاطف معه ويقتنع أكثر فأكثر أنه كان إنسانا مختلفا وفنانا متميّزا جدّا.


صــوت سيـّـده للفنان البريطاني فرانسـيس بــارود

بعض الأفكار قد تبدو غريبة وغير مألوفة. لكنها يمكن أن تكون مصدرا للإلهام الذي يحقق لصاحبه الثراء أو الشهرة، أو كليهما.
وهذه اللوحة توفر مثالا على ذلك. يكفي القول أنها عاشت لأكثر من مائة عام وما تزال مشهورة كثيرا بعد أن تحوّلت إلى ماركة تجارية لعدد من كبريات شركات الصوتيات في العالم.
ومن عوامل شهرة اللوحة، بالإضافة إلى طرافة موضوعها، إسمها الموحي والجميل.
وقصّة اللوحة تعود إلى نهايات القرن قبل الماضي.
كان شقيق فرانسيس بارود قد توفي قبل وقت قصير من رسمها. وقد ورث عنه فرانسيس كلبه الصغير وجهاز فونوغراف من صنع شركة إديسون الأمريكية، بالإضافة إلى بعض التسجيلات التي تحمل صوت شقيقه المتوفى.
وكان من عادة فرانسيس بارود أن يستمع من وقت لآخر إلى صوت أخيه في جهاز الفونوغراف الموصّل بمايكروفون.
وقد لاحظ أن الكلب يقترب من المايكروفون ويصدر بعض الهمهمات الغريبة ويهزّ ذيله انتشاءً وطربا كلما سمع صوت سيّده الراحل.
تكرّر هذا الأمر كثيرا. وكان الفنان يراقب سلوك الكلب بالكثير من الحيرة والاندهاش. ولم تلبث الفكرة أن اختمرت في رأسه، فرسم لوحة للكلب وهو يستمع باهتمام إلى الصوت المنبعث من جهاز التسجيل.
وفي أحد الأيّام، أخذ بارود اللوحة إلى الرويال أكاديمي لعرضها هناك. غير أن محاولته رفضت. ثم عرضها على شركة إديسون وفي ذهنه احتمال أن تبتاعها الشركة منه لاستخدامها في الترويج لجهاز الفونوغراف الذي تنتجه.
لكن ردّ الشركة جاء مخيّبا لآماله، بعد أن قيل له إن اللوحة غير ذات موضوع وأن الكلاب لا تستمع إلى الموسيقى.
ومرّ وقت ليس بالقصير كان بارود خلاله قد صرف النظر عن فكرة بيع اللوحة وفقد كلّ أمل في أن يجد من يشتريها.
لكن بعد أشهر، أبدت شركة "غرامافون" البريطانية اهتمامها بالصورة، واشترطت على الفنان لشرائها استبدال صورة الفونوغراف بأحد أجهزة تشغيل الأصوات التي تصنعها.
ثم اشترت اللوحة والاسم بمبلغ لا يتجاوز مائة جنيه استرليني.
وقد استخدمت الشركة اللوحة كعلامة تجارية لها وظهرت في جميع إعلاناتها وطبعتها على ملصقاتها وأوراقها الرسمية وتسجيلاتها.
وما تزال اللوحة الأصلية معلقة إلى اليوم في مكاتب شركة EMI العالمية للصوتيات التي ورثت شركة غرامافون القديمة.
مع مرور الأيّام، تحوّلت صورة الكلب إلى رمز من رموز الثقافة الشعبية والاستهلاكية وظهرت في العديد من الإعلانات والدعايات. كما ظهرت على أغلفة عدد من المنتجات الموسيقية من بينها ألبوم غنائي للمطربة كريستينا اغيليرا.
يذكر أن الكلب مات عام 1895 أي قبل ظهور اللوحة بعامين. وبعد خمسين عاما على رحيله، بادرت شركة غرامافون إلى تكريمه وإحياء ذكراه في حفل مهيب انتهى بوضع لوحة نحاسية على قبره في إحدى حدائق لندن.
أما فرانسيس بارود فقد توفي عام 1924 عن عمر يقارب السبعين.
الجدير بالذكر أن الكلاب كانت دائما موضوعا مفضّلا لدى شركات الدعاية والإعلان.
وإذا كان فرانسيس بارود قد جعل الكلب يستمع إلى الموسيقى والأصوات، فإن بعض شركات الإعلان مشت خطوة أبعد من ذلك عندما جعلت الكلاب في إعلاناتها تعزف الموسيقى وتلعب البوكر وتدخّن السيغار وهي ترتدي ملابس غاية في الترتيب والأناقة.


غــشّــاشــو الورق للفنان الايطـالـي كـارافــاجـيــو

تعود هذه اللوحة إلى عصر النهضة الايطالي وتعتبر من بين أكثر الأعمال التشكيلية إتقانا وتميّزا.
وقد رسمها كارافاجيو في بدايات اشتغاله بالرسم، وحاول من خلالها ابتكار شكل جديد من الصور التي تتضمّن عناصر الغش والإخفاء والخداع.
ويقال انه يستحيل تقليد اللوحة أو استنساخها. ومع ذلك، فقد قلدها رسّامون كثر، لكنْ لا أحد تمكّن من مضاهاة الأصل.
في اللوحة نرى شابّين يلعبان الورق بحضور شخص ثالث يقوم بدور الضالع أو الشريك.
وفي الزاوية اليسرى من الطاولة تستقرّ كومة من العملات الذهبية التي يفترض أنها ستذهب إلى من سيفوز في النهاية.
الشابّ إلى اليسار يبدو ذا طبيعة رصينة وسمت وسيم. كما أن ملابسه الباذخة وهيئته الأنيقة تدلّ على خلفيته الاجتماعية الرفيعة.
والذي يتمعّن في ملامحه ونظراته سرعان ما يدرك أنه يلعب دور البريء أو الضحية في اللوحة.
أما الشابّ إلى اليمين فيجسّد دور الغشّاش، وهو يبدو على شيء من التوتّر واللهفة، فيما يخبئ بعض الورق وراء ظهره. وما يثير الانتباه في مظهره، بشكل خاص، هو أنه يرتدي خنجرا حول خصره.
غير أن الشخصية الأكثر درامية في اللوحة هي شخصية الرجل الجالس بين الشابين. فملامحه ونظراته وحركاته تختصر التأثير السيكولوجي والدراماتيكي للمشهد. إذ يبدو الرجل منهمكا في استراق النظر إلى أوراق الشاب الجالس إلى جواره، بينما يتابع شريكه إشاراته وإيماءاته بتلهّف وحرص.
نظرات الرجل متربّصة، مختلسة ومخاتلة. ومن الملاحظ أن كارافاجيو حرص على تغطية عينه اليمنى بطرف عمامة الشاب الجالس إلى جانبه لكي يكثف الإحساس بطبيعته المراوغة وليضفي على نظراته بعدا دراميا أعمق.
ومع ذلك تبدو عينه الوحيدة، الظاهرة في الصورة، مفتوحة على اتساعها، تراقب وتتابع وترسل الإشارات والتلميحات إلى الجانب الآخر من الطاولة.
وممّا يلفت الانتباه أيضا منظر يده التي خبّأها داخل قفاز بينما راح يؤشّر بإصبعيه لشريكه.
من الواضح أن كلّ شيء يتمّ على هذا المسرح المصغّر خلسة وعن طريق الإيهام ومحاولة صرف الأنظار.
والإخفاء هو سيّد الموقف هنا. فالشاب البريء واثق من أن أحدا لا يرى ما في يده من أوراق. والغشّاشان متأكّدان من أن الشاب غير واع بما يخطّطان له. وكلّ واحد من الثلاثة يلعب بطريقته الخاصّة ضمن لعبة اكبر يتنافس فيها الجميع للفوز بالجائزة.
والذي يمرّ على تفاصيل اللوحة بطريقة عابرة سوف لن يلمح فيها سوى خمس أيادٍ. لكن بشيء من التركيز سيكتشف مكان وجود اليد السادسة.
ويظهر أن كارافاجيو اختار أن يرسم اليد الثانية للرجل في ذلك المكان الذي لا يتوقّعه أحد، أي تحت ذراع شريكه وبالقرب من الخنجر، لكي يؤكّد مرّة أخرى على عنصر الإخفاء والتعمية، وربّما للإيحاء بأن اللعبة قد تنتهي بمشهد عنيف وغادر.
من المعروف أن لعبة الورق من الرياضات الذهنية القديمة جدّا، لكنْ لا يُعرف أين ولا متى نشأت. وقد جرت العادة أن يتنافس المتبارون فيها على مبلغ من المال، أي أنها في النهاية ضرب من القمار. وكثيرا ما يلجأ اللاعبون إلى الحيل والأحاجي السحرية للسيطرة على النظام الذي يجري من خلاله توزيع وتبادل الأوراق. ومن أهم المواصفات المطلوبة في اللاعب سرعة البديهة وخفّة اليد والقدرة على مراقبة الخصم وكشف إستراتيجيته في اللعب.
في هذه اللوحة، ثمّة ما يوحي بأن الخداع هو الذي سينتصر في النهاية على البراءة. لكن هناك من يرى بأن كارافاجيو إنما أراد أن يسرد قصّة أو حكاية، وهو لم يكن معنيا كثيرا بتضمين لوحاته دروسا أو مواعظ أخلاقية.
ومن الأمور الأخرى التي تشدّ الناظر إلى اللوحة واقعيّتها الشديدة وألوانها اللامعة بالإضافة إلى تأثيرات الضوء فيها. هناك أيضا أناقة الملابس: اللباس المخملي الذي يرتديه الشابّ إلى اليسار بطيّاته وحواشيه الموشّاة بأناقة، وأيضا النقوش الزهرية والأنماط البديعة التي تزيّن ملابس الشخصين الآخرين.
في ما بعد ظهرت لوحات كثيرة تتخذ من فكرة الغشّ أو الخداع موضوعا لها. ومن أشهرها لوحة بنفس الاسم للرسّام الفرنسي فالانتين دي بولون Valentin de Boulogne ولوحتان أخريان لـ جورج دي لا تور Georges de la Tour؛ الأولى بعنوان قارئة الحظ TheFortune Teller، والثانية The Cheater أو الغشّاش.
في القرون الوسطى، كان كلّ من تثبت عليه تهمة ممارسة لعب الورق يعاقب بالطرد من الكنيسة. في حين كان بعض الملوك والحكّام يحظرونها باعتبارها شكلا من أشكال القمار الذي يهدّد النظام الاجتماعي لأنه يتيح لبعض الفئات فرصة الإثراء بطريقة غير مشروعة تتنافى مع مبدأ أن يعيش الإنسان من عرق جبينه وأن يكسب رزقه بوسائل شريفة ونزيهة.
أما بالنسبة لـ كارافاجيو، فرغم أنه لم يعش أكثر من 39 عاما، فإن تأثيره وشهرته في زمانه وبعد وفاته كانا كبيرين وواسعين.
وقد عُرف عنه قربه من أكثر الشخصيات نفوذا في مجتمع روما آنذاك. كما كان مقرّبا من رجالات الكنيسة والكرادلة الذين كلفوه برسم مواضيع دينية.
لكنه أثار حنق هؤلاء بلوحته "موت العذراء" التي رسم فيها السيّدة بملامح وجسد امرأة مومس انطبعت صورتها في ذهنه بعد أن شاهد جثتها وهي تنتشل من مياه النهر بعد موتها غرقا.
ومن أغرب الحوادث التي تروى عن هذا الفنان واقعة قتله لأحد الأشخاص في روما بغير قصد إثر شجار نشب بينهما.
وقد تمكّن كارافاجيو بعد ذلك من الفرار بمساعدة احد أصدقائه القدامى من القساوسة. وبعد سنوات من هروبه، أصدر البابا حكما بالعفو عنه. وعندما عاد إلى روما، اعتقل عن طريق الخطأ لجريمة لم يرتكبها. لكنه توفي في السجن بعد ذلك بأيام بعد إصابته بمرض غامض لم يمهله طويلا.


منظر لساحة الجمهورية للفنان الفرنسي إدوار ليـون كورتيـز

لا يوجد رسّام أحبّ مدينة بمثل ما أحبّ إدوار كورتيز مدينته باريس.
وقد بلغ من افتتانه وشغفه الكبير بهذه المدينة أن كرّس لها جميع لوحاته تقريبا وعكف على تصويرها على امتداد أكثر من خمسين عاما.
ومناظره التي رسمها لباريس وشوارعها وساحاتها ومعالمها المختلفة ما تزال من أشهر وأروع الصور التي تعكس بهاء وفخامة هذه المدينة.
كما يمكن اعتبار لوحاته سجلا يوثّق جانبا من الإرث التاريخي والحضاري لباريس خلال النصف الأول من القرن العشرين.
والذي يتأمّل لوحات كورتيز التي تبدو فيها الشوارع والبنايات والساحات غارقة في الأضواء الملوّنة والمشعّة، لا بدّ وأن يستذكر مغزى تسمية هذه المدينة بعاصمة النور.
فقد كانت باريس في ذلك الوقت عاصمة الفنّ الأولى في العالم. وكان يؤمّها الفنّانون والمبدعون من مختلف الأرجاء والأماكن، إمّا للدراسة أو سعيا للعمل أو التماسا للشهرة.
كما كانت المدينة مقصدا للكثير من السياح وأصحاب الأعمال وجامعي التحف الفنية، وحاضنة للعديد من المدارس والاتجاهات والتيّارات الحديثة في الرسم والموسيقى والمسرح والأدب.
في هذه اللوحة يرسم كورتيز بأسلوبه الانطباعي المتفرّد والخاص ساحة الجمهورية؛ أحد أشهر معالم باريس.
والمنظر عبارة عن كرنفال صاخب من الألوان والأضواء المتوهّجة والمنعكسة على الساحة والمباني المحيطة بها.
وفيها نرى رجالا ونساءً يمشون على الأرصفة، وعربة تجرّها جياد بيضاء، وعربة أخرى لبيع الزهور، ومقاهي وأكشاكا.
وإلى يمين اللوحة من الأمام تظهر زوجة الفنان وابنته اللتان كان يحرص على رسمهما في لوحاته.
ساحة الجمهورية كانت وما تزال أكثر الأماكن في باريس ازدحاما بالحركة وبالناس. ويعود تاريخ إنشائها إلى بدايات اندلاع الثورة الفرنسية.
ومن أهم المعالم التي تميّزها تمثال الجمهورية الذي يظهر في خلفية اللوحة والذي شيّده النحّات جول دالو في العام 1883م.
من الواضح أن كورتيز رسم هذا المنظر في إحدى ليالي الشتاء الباردة والممطرة.
وتتبدّى مهارته بشكل خاص في تمثيل الساحة المبللة بالمطر وفي استخدامه المبهر للألوان اللامعة والمتلألئة.
وعندما نتمعّن في اللوحة لا يمكن إلا أن تلفتنا براعة الفنان الهائلة في تحويل كتل الطلاء الثقيلة إلى وهج انطباعي أخّاذ تنبثق منه ألوان ناعمة ومتناغمة تتشكّل منها ملامح الوجوه وتفاصيل الملابس والنوافذ والمصابيح وغيرها من الأشياء والتفاصيل.
وكثيرا ما تتكرّر في مشاهده صور لخيول تجرّ العربات وأشخاص يمشون ويقرؤون الصحف ومحلات تبيع الزهور ونوافذ تشعّ منها الأنوار الساطعة والمتألقة.
في لوحاته الأخرى يصوّر كورتيز، بنفس الأسلوب الشاعري والروح المفعمة بالحياة، مناظر لمعالم باريس الأخرى التي لا تقلّ شهرة، مثل برج ايفل وكنيسة ماديلين وساحة الكونكورد والحيّ اللاتيني وقوس النصر وساحة نوتردام ودار الأوبرا والشانزيليزيه وغيرها.
وبالإضافة إلى الشكل الخارجي، فإنّ لكلّ مكان من هذه الأمكنة شخصية وحضورا داخليا محسوسا ومتجسّدا في اللوحة.
فاهتزاز الألوان وبريقها وتماهيها وذوبانها الغريب يتوالد عنه عناصر حيّة من أصوات وكلمات وإيقاعات وأحاسيس.
ويكاد الناظر إلى اللوحة يحسّ برودة الجوّ ويلمس الغيم بيديه ويشمّ رائحة المطر ويسمع وقع خطوات الناس وصدى كلماتهم واختلاج أنفاسهم.
لقد عاش كورتيز حياته بأكملها في هذه الأماكن. ومع مرور الوقت، نشأت بينه وبينها أواصر نفسية وروحية حميمة جعلته مندمجا فيها ومتّحدا بها.
ولوحاته هي بمعنى ما تجسيد لمشاعره وأحاسيسه الخاصّة وتعبير عن حالاته النفسية والشعورية.
وعند الحديث عن كورتيز ومناظره الباريسية الجميلة، لا بدّ وأن نتذكّر مواطنه الفنان انطوان بلانشار Antoine Blanchard الذي اشتهر، هو أيضا، بلوحاته التي تصوّر باريس بما تضمّه من صروح ومعالم وما تحفل به الحياة فيها من مظاهر وأنشطة مختلفة.


بيغمـاليــون و غـالاتـيــا للفنان الفرنسـي جـان ليـون جيــروم


هذا الكمال لا يخصّني. أنتَ اخترعته. وأنا لم أكن سوى المرآة التي كنت ترى نفسك فيها. ولهذا السبب بالذات أحتقرك!"
- كلاريبل ألجيريا، من قصيدة "غالاتيا أمام المرآة"

كان بيغماليون، حسب ما يذكره اوفيد في كتاب التحوّلات، نحّاتا قبرصيا موهوبا وبارعا. لكنه كان كارها للنساء اللاتي كان يعتبرهنّ مخلوقات ناقصات ومعيبات. وقد ألزم نفسه بألا يضيّع وقته في مصاحبتهن، بل وأقسم ألا يتزوّج امرأة طوال حياته مفضّلا الفنّ على رفقة النساء.
غير انه في ما بعد صنع تمثالا على هيئة امرأة، كأنّما ليحاول من خلال التمثال إصلاح العيوب التي كان يراها في النساء الحقيقيات. كان التمثال آية في الجمال والروعة والإتقان. وكانت ملامحه تجسيدا لأكثر نساء العالم جمالا ومثالية وكمالا، كما كان يراها في مخيّلته وعقله. وكان من المدهش أن ملامح المرأة لا تشبه ملامح أيّ امرأة أخرى.
وشيئا فشيئا، وجد بيغماليون نفسه واقعا في حبّ التمثال الذي صنعه وأسماه غالاتيا. وأصبح يتعامل معه بعواطفه لا بالمطرقة والإزميل.
وكان يحدّق في المرأة لأيّام طويلة متأمّلا تضاريس جسدها وأعضائها المستديرة والناعمة. وكان يتحسّسها كي يتأكّد إن كانت حيّة، غير مصدّق أنها مجرّد تمثال من العاج.
وكان يتحدّث إليها الساعات الطوال ويلبسها أغلى الملابس ويجلب لها صدف البحر وأفخم الحليّ والمجوهرات.
وفي الليل كان يأخذ التمثال إلى سريره وينام معه.
التمثال نفسه كان هادئا، لم يكن يتكلم أو يناقش أو يثير المشاكل. وكان هذا يروق لـ بيغماليون ويناسب طبيعته.
وفي احد الأيام ذهب بيغماليون إلى الاحتفال السنوي الذي ترعاه أفرودايت آلهة الجمال، وطلب منها أن تهبه زوجة تشبه تمثاله.
وبعد أن عاد إلى البيت، قصد التمثال وطبع على فمه قبلة كما كانت عادته. لكنه فوجئ بأن الشفتين أصبحتا ساخنتين والنهدين طريّين والأطراف مرنة ليّنة. ولفرط المفاجأة تراجع بيغماليون إلى الوراء بذهول. وأيقن أن افرودايت منحته أعزّ أمنياته: أن يتحوّل التمثال الساكن إلى امرأة حقيقية من لحم ودم.
والتقت عيناه بعيني غالاتيا لأوّل مرّة وعرف كلاهما الحبّ ثم تزوّجا وأنجبا طفلا جميلا أسمياه بافوس، الذي سيطلق اسمه في ما بعد على إحدى مدن قبرص.
الفنان جان ليون جيروم عُرف بمناظره الاستشراقية الفخمة. وقد استهوته قصة بيغماليون واختار أن يرسم اللحظة التي تدبّ فيها الحياة في غالاتيا وهي تمدّ يدها لتطوّق رأس بيغماليون وكأنها تصحو من سبات عميق.
وقد رسم الفنان لوحتين لنفس الموضوع؛ واحدة تصوّر غالاتيا من الأمام و الأخرى تصوّرها من الخلف.
بالإضافة إلى كونه رسّاما، كان جيروم نحّاتا أيضا. وفي نفس السنة التي رسم فيها اللوحتين، أنجز تمثالا يحكي عن نفس القصّة.
المنظر يحمل لمسة رومانسية واضحة. ويلاحظ دقّة الرسّام ومهارته في الإمساك بلحظة التحوّل في التمثال وكذلك براعته في إبراز الجسد المتحوّل بنعومة وانسيابية.
عندما نتأمّل في تفاصيل التمثال وفي الطريقة الناعمة والمحكمة التي صُوّر بها، لا بدّ وأن نتذكّر ما يقال أحيانا من أن العمل النحتي يستثير في المقام الأول حاسّة اللمس عند الإنسان، بخلاف الرسم الذي يتوجّه في الأساس إلى حاسّة الإبصار التي تميل إلى النظر إلى اللوحة والتمعّن في تفاصيلها.
أسطورة بيغماليون كانت ملهما للكثير من الأعمال الإبداعية المهمّة في الفن والأدب. ومن بين من تطرّقوا إليها الشاعر الألماني فريدريش شيللر والفيلسوف غوته والكاتب المسرحي الايرلندي جون برنارد شو الذي تحوّلت مسرحيّته عن بيغماليون إلى فيلم شهير بعنوان "سيّدتي الجميلة".
بعض الكتّاب يرون في أسطورة بيغماليون رمزا للفنان الواهب للحياة بتحويله الحجر البارد والساكن إلى كائن حيّ. والبعض الآخر يرى فيها رمزا لغموض الحياة وقابلية الأفكار لأن تتحوّل وتتغيّر.
جان ليون جيروم يغلب على رسوماته الطابع الأكاديمي. وقد عُرف بأسفاره إلى بلدان الشرق الأوسط حيث رسم لوحاته الشهيرة التي تصوّر جوانب من سحر الشرق وغرائبيّته.
في الأعمال الأدبية والفنية التي ناقشت أسطورة بيغماليون، كثيرا ما تثار تساؤلات فلسفية وسيكولوجية تتناول السبب الذي دفع بيغماليون إلى نحت امرأة طالما انه كان يكره النساء، ولماذا مثلا لم يصوّر شجرة أو رجلا أو حيوانا؟
ولماذا انصبّ اهتمامه على الشكل دون الجوهر عندما ركّز على الهيئة الخارجية للمرأة ولم يعر اهتماما لشخصيّتها وروحها الداخلية؟
وهل أحبّ بيغماليون غالاتيا لذاتها أم لأنها من صنع يديه ومخيّلته أم لأنها كانت مرآة لنفسه هو؟
وهل كانت المرأة تجسيدا لحلمه الخاص أم انعكاسا لإحساسه الشديد بالوحدة وحالة الخواء التي كان يحياها؟
وهل كان بيغماليون يعوّض عن فشله في التواصل مع النساء على المستوى الشخصي والجنسي من خلال نحته للتمثال الذي يسهل تطويعه والسيطرة عليه لانعدام قدرته على الرفض أو الممانعة؟
ثم هل يوجد بالأساس رجل كامل أو امرأة كاملة؟
وإلى أيّ مدى يمكن تصوّر علاقة بين رجل وامرأة خارج حدود الجنس الذي قيل إن بيغماليون كان يكرهه ويمقته؟
وهل كان بيغماليون باحثا عن الكمال فعلا، أم انه كان مجرّد شخص نرجسي يبحث عن امرأة ترتفع إلى مستوى رغباته ويثير من خلالها غيرة الآخرين وحنقهم؟
بعض الأعمال الأدبية المعاصرة تعاملت مع الأسطورة بشيء من التحوير والتعديل.
في أحدها، مثلا، عندما تُبعث الحياة في غالاتيا فإنها تصبح امرأة متبلّدة الأحاسيس وباردة المشاعر ترفض بيغماليون وتتمنّع عليه فلا يستطيع الظفر بها في النهاية.
وفي إحدى المسرحيات، يقوم بدور النحّات رجل متزوّج تشاطره زوجته اهتمامه بنحت تمثاله المسمّى هو الآخر غالاتيا..
لكنْ عندما يتحوّل التمثال إلى امرأة حقيقية، سرعان ما تدبّ الغيرة في قلب الزوجة فتقلب البيت رأسا على عقب. وعندما تخرج الأمور عن السيطرة، تدرك غالاتيا أنها كانت اسعد حالا في هيئتها الأصلية وتقرّر أن تتحوّل مرّة أخرى إلى تمثال.
في العقود الأخيرة، شاع كثيرا مصطلح "البيغماليونية" الذي أصبح مرادفا لحالة الانجذاب الجنسي إلى التماثيل والدمى والمانيكانات واللعب العارية.


تكويـن بالأصفــر والأزرق والأحمــر للفنان الهولنـدي بِـيـت مـونـدريــان


يعتبر بيت موندريان أحد روّاد المدرسة التجريدية في الرسم. وقد اقترن اسمه بتطوير ما اسماه في ما بعد بالبلاستيكية الجديدة. وهي شكل من أشكال التجريد الذي يعتمد على رسم شبكة من الخطوط السوداء الأفقية والعمودية باستخدام الألوان الأساسية.
درس موندريان الرسم في مدرسة الفنون الجميلة بأمستردام. وعندما تخرّج عمل فيها مدرّسا.
وفي بداياته، أظهر ميلاً لرسم المناظر الطبيعية بأسلوب قريب من الانطباعية. غير انه في ما بعد تحوّل إلى الرسم التجريدي متأثّرا بدراسته للفلسفة والدين.
في ذلك الوقت، أي في نهايات القرن التاسع عشر، شاعت الأفكار الثيوصوفية؛ أي تلك التي تمزج ما بين الدين والفلسفة.
وظهرت نظرية تقول إن فهم الإنسان للطبيعة يمكن أن يتحقّق بشكل أعمق من خلال الوسائل غير التجريبية.
وفي مرحلة لاحقة، ابتكر هو ومجموعة من زملائه تيّارا فنيّا أسموه "الأسلوب". ولم يكن تأثير ذلك التيّار مقتصرا على الرسم، بل امتدّ ليشمل أيضا المعمار والمسرح وتصميم الأثاث.
في هذه اللوحة، نرى مجموعة من الخطوط المستقيمة والأشكال المستطيلة التي تتوزّع على بعضها الألوان الرئيسية الثلاثة، أي الأحمر والأزرق والأصفر.
يقول بعض النقاد إن هذه اللوحة تمثل بحث موندريان الدائم عن المعرفة الروحية والبساطة والتناغم المطلق ونقاء الألوان من خلال استخدام الأشكال والتكوينات الهندسية.
وثمّة من يذهب إلى القول إن اللوحة هي إحدى أهمّ لوحات القرن العشرين، بالنظر إلى تأثيرها الكبير في مجالي التصميم والعمارة الحديثة.
ويمكن النظر إلى لوحات موندريان باعتبارها بُنى رمزية تجسّد طبيعة رؤيته عن ثنائية الكون. فالعمودي عنده هو رمز للروحي والذكوري، والأفقي رمز للمادي والأنثوي.
من الواضح في اللوحة غلبة المساحات البيضاء على ما عداها. وقد كان موندريان يرى أن الأشكال البيضاء تعطي اللوحة ديناميكية وعمقا اكبر. وأصبحت هذه السمة أكثر وضوحا في لوحاته التي أنجزها في أخريات حياته.
كان موندريان يقول إن التجريد هو السبيل الوحيد للاقتراب من الحقيقة والعودة إلى الأصول والبدايات. لكن ذلك لا يتحقق ما لم يملك الرسّام قدرا عاليا من الوعي والحدس اللذين يمكّنانه من بلوغ أعلى درجات الإيقاع والتناغم.
عاش الفنان فترة من حياته في باريس التي التقى فيها بيكاسو وتأثر بالتكعيبية واستوعبها. غير أنها كانت مجرّد محطّة عابرة في مسيرته الفنية.
وعندما سقطت باريس وهولندا بيد النازية عام 1940، انتقل للعيش في لندن ومن ثم نيويورك التي ظلّ فيها حتى وفاته.
استخدم موندريان في جميع لوحاته الألوان الزيتية. وفي نسخ لوحاته الموجودة على الانترنت تبدو الألوان ذات أسطح ملساء مستوية.
غير أن ضربات الفرشاة تبدو واضحة في لوحاته الأصلية الموجودة في المتاحف، مثل متحف نيويورك للفنّ الحديث ومتحف تيت البريطاني.
وهناك الآن بعض المواقع الاليكترونية التي توظف برامج رسوميات وتقنيات أخرى متطوّرة لإعادة بناء لوحات بيت موندريان بل ورسم نسخ شبيهة بلوحاته مع بعض الاختلاف والتعديل.
وفي السنوات الأخيرة ظهرت فرضيّة تقول إن بوسع الكمبيوتر اليوم أن ينتج خطوطا وأشكالا وألوانا أكثر نقاءً وديناميكية وتناغماً ممّا يمكن أن يتحقق على رقعة الرسم العادية وباستخدام الألوان الزيتيّة.


درج إلى السمــاء للفنان الأمريكـي جيـم ووريــن

قد لا يكون اسم جيم وورين مألوفا كثيرا. لكنْ من المؤكّد أن الكثيرين منّا سبق وأن شاهدوا بعض رسوماته، خصوصا هذه اللوحة التي تعتبر أشهر أعماله وأكثرها رواجاً.
وقد بلغ من شعبية اللوحة وانتشارها أن ظهرت على أغلفة العديد من الكتب والروايات والمجلات، بالإضافة إلى حضورها الدائم في الكثير من المواقع الاليكترونية التي تعنى بالشعر والموسيقى والأدب.
"درج إلى السماء" لوحة جميلة ومتألقة بألوانها الهادئة والأنيقة وبمضمونها الديني والروحي الذي يبعث في النفس إحساسا بالسلام والطمأنينة.
وفيها نرى درجا يقوم على شاطئ بحر غامق الزرقة يرتفع إلى السماء ويختفي في الغيوم، بينما تحفّ به الحمائم وتتناثر على جانبيه زهور ذات ألوان متناسقة وبديعة.
هذا المشهد يحتمل أنه يمثل حميمية العلاقة بين السماء والأرض وما بينهما من أواصر. كما انه يستدعي إلى الذهن ذكريات وصوراً عن الغياب والرحيل.
بعض النقاد يعتبرون جيم وورين أحد أنجح الرسّامين المعاصرين. وهناك من يعتبره ظاهرة متفرّدة في عالم الفنّ التشكيلي المعاصر بالنظر إلى انتشاره الغريب وكثرة الطلب على أعماله.
بل إن موقعه الاليكتروني كان وما يزال احد أكثر المواقع الفنيّة جذبا للزوّار من جميع البلدان والقارّات.
وربّما يعود احد أهم أسباب شهرته إلى أن أعماله تتّسم ببساطتها وواقعيّتها التي تروق للناس من جميع الفئات والأعمار، من الأطفال والكبار إلى رجال الأعمال والشخصيات الدينية ونجوم الفن الذين يقصدونه ليرسم لهم بورتريهات شخصية بنفس الأسلوب الفانتازي الذي ظلّ يرسم به منذ أكثر من ثلاثين عاما.
كما تروق رسوماته لشركات السينما ودور النشر التي كثيرا ما تستعين به لتصميم ملصقات لأفلام أو وضع رسوم إيضاحية لقصص وروايات.
وجيم وورين يمزج في لوحاته بين الواقع والخيال. ولا تخلو أعماله من لمسة سوريالية تدهش وتفتن. من مناظر الجياد التي تنبثق من ثبج البحر أو تتشكّل في الجليد، إلى صورة المرأة التي يكشف جانب من وجهها عن ملامح نمر، إلى عرائس البحر التي تداعب حيوانات الدولفين تحت الماء، إلى مناظر لعشّاق يتعانقون في السحاب أو وسط براكين متفجّرة، أو نساء تتحوّل أجسادهن إلى شلالات وأنهار وأقواس قزح، إلى المرأة التي تقرأ كتابا وهي تلتحف بأمواج البحر. إلى آخره.
وهناك سمة تغلب على مجمل لوحاته، ألا وهي اهتمامه بقضايا البيئة والذي ينمّ عن إحساسه الكبير بجمال الطبيعة وقوّتها وتنوّعها كما تعكسه أعماله.
فالطبيعة عنده تتجلى دائما على هيئة نساء جميلات يستلقين على الشواطئ أو فوق السهول والمنحدرات، بينما تكشف ملامحهن عن صور لشلالات وغدران وجبال ومروج خضراء.
وهناك من يشبّهه بمواطنه الفنّان توماس كينكيد. غير أن وورين كثيرا ما يتحدّث عن تأثره في بداياته بـ دالي ورمبراندت ومونيه، قبل أن يختطّ لنفسه أسلوبا مستقلا وخاصّا به.
"درج إلى السماء" عنوان جميل وجذّاب ولا يخلو من شاعرية. هو هنا اسم للوحة، لكنّه بنفس الوقت عنوان لعدد غير قليل من قصائد الشعر والقصص القصيرة، واسم لمسلسل آسيوي شهير، ورمز دلالي لطقوس تعاطي بعض الجماعات الدينية للمخدّرات للوصول إلى حالة من الروحانية المثالية والاتصال بالسماء. كما أن هناك أغنية مشهورة جدّا تحمل نفس هذا العنوان للمغنّي البريطاني ليد زيبلين قيل إنها تتضمّن معاني خفيّة تروّج للسحر وتمجّد الشيطان.
بعد النجاح الكبير الذي حققته اللوحة، رسم وورين لوحة أخرى يمكن اعتبارها تنويعا على نفس الفكرة أسماها "فوق قوس قزح".
ومنذ بعض الوقت، ألفت عازفة البيانو الروسية اوكسانا كوليسنيكوفا، المفتونة بلوحات وورين، مجموعة من القطع الموسيقية التي استلهمتها من أجواء مناظره الغرائبية والساحرة.

بورتريه الدوق أندريـا غـريتـي للفنان الايطـالي تيـتـيـان

يعتبر اندريا غريتي أشهر وأهمّ دوق حَكَمَ فينيسيا خلال القرن السادس عشر.
وقد انتخب لهذا المنصب بعد أن تدرّج في عدة وظائف قيادية في المجالين السياسي والعسكري.
واشتهر غريتي بشخصيّته الصارمة، كما ُعرف عنه احتفاؤه بالفنون طوال السنوات الخمس عشرة التي شغل فيها المنصب إلى أن توفي في العام 1538م.
المعروف أن منصب الدوق كان محطّة أو مرحلة من مراحل التطوّر السياسي الذي شهدته أوربّا وامتدّ لحوالي ألف عام. وقد جرت العادة أن يُنتخب شاغل المنصب من إحدى العائلات الارستقراطية. وكان الدوق يتولى مهامّ قائد الجيش وكبير القضاة. ومن الأمور المألوفة أن يمتدّ حكم الدوق مدى الحياة، وكثيرا ما كان يعهد لابنه أو أحد أقاربه بخلافته. لكنْ تمّ إلغاء هذا التقليد بتأسيس مجلس استشاري أعلى مرتبط بالإمبراطور وموكّل بمهمّة اختيار الشخص الأصلح لشغل المنصب بعيدا عن نفوذ العائلات التقليدية.
رسم تيتيان هذا البورتريه بعد مرور عشر سنوات على وفاة الدوق غريتي. ويظهر أن ذلك كان بطلب من عائلته التي أرادت من وراء ذلك تكريمه وتخليد ذكراه.
في البورتريه يبدو الدوق مرتديا ثوبا مطرّزا وقبّعة مخروطية الشكل وقد وقف بطريقة تشي بالعظمة والقوّة والثقة الكبيرة بالنفس. فالنظرات تبدو صارمة بينما تطبق يده اليمنى على طرف عباءته وهو يخطو إلى الأمام كما لو انه في موكب جماهيري أو احتفالي مهيب.
ومن الواضح أن كلّ ما في هذه اللوحة يوحي بالعظمة والفخامة والحضور القويّ لصاحبها. وما يميّزها بشكل خاصّ الطريقة البارعة التي استخدمها تيتيان في إبراز جمال وأناقة الملابس، من العباءة الحمراء إلى الأزرار الضخمة المذهّبة والخاتم الأرجواني الذي يزيّن اليد اليمنى إلى الفراء الأبيض على الأطراف والحواشي.
هناك أيضا إبراز الرسّام الملامح القاسية للرجل، فالفم مطبق بصرامة والملامح متجهّمة والأنف مدبّب والنظرات مترصّدة.
في تلك الفترة ازداد اهتمام الدوقات برسم أنفسهم. وكانت غايتهم من ذلك تمجيد سلالاتهم وعائلاتهم والتأكيد على شرعيّتهم ومكانتهم في أعين الرعيّة بالإضافة إلى الرغبة في إبراز طبيعة ثقافة البلاط. وأحيانا كانوا يفعلون ذلك بدافع الدعاية السياسية البحتة وللتباهي على أقرانهم من الأمراء والنبلاء الأوربيين.
ويقال إن تيتيان اعتمد في رسم هذا البورتريه على كاتب سيرة حياة اندريا غريتي الذي يذكر أن الرجل كان متعطّشا للسلطة بطبيعته وقد مارس سلطاته الوظيفية بشكل مطلق حتى آخر يوم في حياته. ولم يكن يتسامح مع من يحاول التعدّي على سلطاته واختصاصاته. كما ُُعرف عنه أيضا صرامته مع كلّ من يسيء استخدام سلطاته من نوّابه ومستشاريه.
وفي أوقات تبسّطه كان الدوق يتّصف بشي من الودّ والألفة، لكنه لم يكن يتردّد في إثارة الخوف في نفوس من حوله متى حاول أحد استفزازه أو إغضابه. كما اشتهر أيضا بشغفه بالأشياء القديمة واحتفائه بالفنون ورعايته للآداب وفنّ العمارة. وكثيرا ما كان يضمّن ُخطبَه وقراراته أقوالا لأرسطو وغيره من الفلاسفة.
من جهة أخرى، كان غريتي يؤمن بأن تحقيق السلام يقتضي البعد عن الصراعات. لكنّ هذا لا يتأتّى إلا بجيش قويّ وديبلوماسية واعية تحافظ على بقاء الجمهورية بعيدا عن صراعات وحروب القوى الكبرى.
في ذلك الوقت كان من الأمور المتعارف عليها أن تخضع ثروة الدوق بعد وفاته للتدقيق والتمحيص للتأكّد من انه لم يستغلّ منصبه للإثراء غير المشروع.
وبنهاية القرن الثامن عشر، تمّ إلغاء منصب الدوق رسميّا في فينيسيا بعد أن احتلّ نابليون المدينة وضمّها إلى امبراطوريّته. وكان ذلك الحدث مؤذنا بطيّ صفحة مهمّة من تاريخ نظم الحكم الأوربّية اتّسمت بسيطرة الإقطاع والأسر البورجوازية على مقاليد الحياة العامّة.
أما تيتيان (أو تيزيان أو تيشيان كما ينطق اسمه أحيانا) فيعتبر أحد أعظم رسّامي عصر النهضة الايطالي، كما أن أثره كان كبيرا في زمانه وفي الأجيال العديدة من الرسّامين الذين جاءوا بعده.
وقد أتمّ هذا البورتريه وهو في أوج شعبيّته ونضجه الفنّي. وربّما لا يداني بورتريه الدوق غريتي من حيث الشهرة والقيمة الفنية من آثار تلك الحقبة سوى بورتريه الدوق ليوناردو لوردان لزميله ومواطنه جيوفاني بيلليني.
توفي تيتيان بالطاعون في فينيسيا عام 1576 عن عمر يناهز التسعين. وفي بداية هذا الشهر، أي فبراير 2009، بيعت لوحته ديانا و ايكتيان في مزاد بلندن بأكثر من سبعين مليون دولار أمريكي.


باني ثاني أو موناليزا الهندية القـرن الثامـن عشـر

هذه اللوحة – المنمنمة تعتبر أشهر لوحة في الهند. وهناك من يعتبرها علامة فارقة وأيقونة للفنّ الهندي في جميع العصور. وبعض النقاد يصفها بأنها "موناليزا الهندية".
وما يزال الفنانون الهنود إلى اليوم يرسمون نسخا منها، تماما مثلما كانت في زمانها مصدر إلهام للشعراء والفنانين.
المنمنمة رسمها فنان ظلّ اسمه مجهولا، وهي تصوّر امرأة اسمها "رادها" لكنها أصبحت تسمّى في ما بعد "باني ثاني" الذي يعني المرأة الأنيقة والذكيّة.
كانت المرأة خليلة ثمّ زوجة لأحد مهراجات ولاية راجيستان في القرن الثامن عشر. وكان المهراجا قد رآها أولّ الأمر في بيت زوجة والده فراعه جمالها وأعجب بأدبها وذكائها وما لبث أن وقع في حبّها بعد أن اكتشف أنها مثله تهوى الغناء والشعر والأدب.
وقد كتب زوجها الكثير من القصائد التي يمتدح فيها المرأة ويثني على أدبها وجمالها. كما كان جمالها مصدر افتتان للرجال والنساء في ذلك الزمان، واستلهم الفنانون في رسوماتهم ملامح وجهها في أعمالهم. بل لقد وصل الأمر ببعضهم أن استعار ملامحها ليضعها على وجه "كريشنا" كبير الآلهة الهندوسية.
ويبدو أن ملامح هذه المرأة تضاهي الأوصاف التي تتضمّنها قصائد الحبّ المكتوبة بالسنسكريتية والتي تصف جمال الأنثى بطريقة مثالية.
في اللوحة تبدو "رادها" بوجه طويل وحاجبين مقوّسين وعينين حالمتين وأنف حادّ مستطيل وشفتين رقيقتين. وهي هنا ترتدي الساري وتمسك بزهرة لوتس وقد ازدان فستانها البرّاق باللآليء والحجارة الثمينة.
اشتهرت المنمنمات الهندية بخاصّيتها الغنائية التي تبهج العقل والقلب، وبألوانها الجميلة المستمدّة من المعادن والحجارة الثمينة والذهب والفضّة.
ويعود تاريخ ظهور المنمنمات في الهند إلى بدايات القرن السادس عشر الميلادي. لكنها شهدت ازدهارا كبيرا في عصر أباطرة المغول المسلمين الذين مزجوا فيها بين الأساليب المحلية والفارسية.
وكان سلاطين المغول يحرصون على أن تعكس المنمنمات فخامة حياتهم وأمجادهم وانتصاراتهم الشخصية.
وعادة ما تعتمد مواضيع المنمنمات على ما ترويه المخطوطات القديمة وكتب الأدب الكلاسيكي البوذي والهندوسي. كما يعتمد البعض الآخر على مواضيع وأفكار مستوحاة من صميم الحياة اليومية كالحبّ والتسامح والتضحية.. إلى آخره.
والكثير من المنمنمات تضمّ صورا ورسومات لغزلان وحمام وأشجار وطواويس وجبال وأنهار وغيم وغيرها من صور الكائنات وعناصر الطبيعة.
يقال إن اللون الذهبي المستخدم في تزيين هذه المنمنمة مأخوذ من الذهب الخالص بعد إذابته. وفي هذا إشارة إلى سطوة الحبّ الذي كان يتملّك قلب المهراجا تجاه زوجته ونوعية الحياة المترفة التي كان يعيشها مهراجات الهنود في ذلك الوقت.
بالنسبة للزوجين العاشقين، تقول المصادر التاريخية أنهما عاشا حياة هانئة وسعيدة، وعندما أحسّا بتقدّم العمر انسحبا من الحياة العامّة وانزويا في قصرهما بعيدا عن الأنظار وتفرّغا لنظم الأشعار وأداء الأغاني التعبّدية والتراتيل الدينية.
المنمنمات الهندية ظلت تتمتّع دائما بجاذبية عالمية، وينظر إليها الكثيرون على أنها تمثّل الروح الحقيقية للحضارة الهندية.
ويوجد اليوم الكثير من هذه الأعمال في أشهر المتاحف العالمية ويباع بعضها في المزادات بأسعار باهظة وأحيانا خيالية.


خـادمـة الحـليـب للفنان الهولندي يوهـان فيـرميـر

يقال أحيانا انه ما من شيء يمكن أن يفسد العمل الفني أكثر من التفسيرات والشروحات غير الضرورية ومحاولات تحميله بأكثر ممّا يحتمل.
وهذه اللوحة، رغم بساطة موضوعها وأناقة ألوانها ورقّة خطوطها - وكلّ ذلك مما يروق للعين وتهواه النفس - كانت وما تزال موضع جدل بالنظر إلى ما تختزنه من رموز وإشارات خفيّة قيل إن فيرمير أودعها فيها.
في اللوحة يخرج فيرمير عن النمط الذي كان الرسّامون الهولنديون يتبعونه في رسم الخادمات. إذ غالبا ما كنّ يُرسمهن بوصفهن وضيعات وخاملات وكسولات.
فالخادمة في اللوحة تبدو على هيئة من النبل والجدّية والرصانة، بينما هي منهمكة في أداء جانب من وظائفها اليومية المعتادة.
وهي هنا تصبّ الحليب في وعاء بينما نظرها مركّز إلى أسفل، أي إلى حيث الطاولة التي استقرّت عليها آنيّة وسلّة خبز وإبريق ذو لون اسود.
أما المكان فعبارة عن غرفة شبه عارية إلا من بعض الأدوات والمستلزمات التي تتناسب مع بساطة الخادمة وطبيعة عملها.
التفاصيل هنا مهمّة، ومن الواضح أنها مرسومة بعناية فائقة.
فالجدار إلى الخلف مدهون بمزيج خفيف من الرمادي والأخضر. وعلى الجدار تبدو آثار مسامير تمّت إزالتها. وهناك أيضا الضوء الخفيف المتسرّب عبر الشبّاك في أقصى اليسار، وهو ملمح يكاد يكون ثابتا في معظم لوحات فيرمير.
ومن العناصر الأخرى التي تسترعي الانتباه أيضا الألوان الجميلة والمتناسقة لملابس المرأة ذات الألوان الأزرق والأصفر والأحمر. وهناك أيضا الأسلوب الرائع الذي رسم به فيرمير خيط الحليب المنسكب والنسيج المذهّب للخبز وطيّات أكمام الفستان التي رُسمت بألوان مذابة.
والى يمين النافذة، يمكن أن نلمح سلّة معدنية وإناءً بلون ذهبي لامع يعلوهما إطار لصورة.
وعلى الأرضية هناك سخّان من النوع الذي كان ُيستخدم لتدفئة القدمين.
هذه اللوحة ارتبطت دائما بمعنى رمزي؛ ديني على وجه الخصوص. وقد قيل في بعض الأوقات إن المرأة إنما تمثل السيّدة العذراء، بينما يرمز الحليب للنبيذ أو دم المسيح، فيما الخبز المهشّم كناية عن جسد المسيح الذي لحق به التلف بعد صلبه.
وممّا يعزّز هذه الفرضية في منطق القائلين بالرمزية المقدّسة للوحة أن المسيح كان يصف نفسه بخبز الحياة، وأن للحليب في الإنجيل دلالة مقدّسة، علاوة على أن المسامير في جدار اللوحة لم توضع بمحض الصدفة وإنما أراد الرسّام من ورائها أن تكون رمزا لعملية الصلب.
يُذكر أن فيرمير بعد أن أتمّ رسم هذه اللوحة باعها في نفس ذلك العام بمبلغ يقلّ عن مائتي غيلدر في مزاد بأمستردام، وهو سعر يعتبر عاليا نسبيا في ذلك الوقت.
اللوحة موجودة اليوم في متحف ريكس الهولندي. وقد تمّ إخضاعها في وقت سابق لفحص بالأشعة تحت الحمراء كشف عن وجود أثر لخارطة على الجدار لكنها طمست وأخفيت لاحقا. ويظهر أن فيرمير عدل عن الفكرة بعد أن رأى انه قد يكون من غير المناسب رسم خارطة في المطبخ.
عُرف عن فيرمير اهتمامه برسم الخرائط، وهي سمة متكرّرة في العديد من لوحاته.
كما اشتهر بمناظر غرفه المملوءة بالضوء وبشخوصه المتأمّلة وببراعته في تمثيل الكراسي والإطارات المعلقة على الجدران وقطع الأثاث.
وهناك من يشبّه لوحاته بالصور الفوتوغرافية لشدة واقعيّتها. وقد تجدّد الاهتمام بأعماله بشكل خاص بعد اختراع آلات التصوير الفوتوغرافي حوالي منتصف القرن التاسع عشر. وهناك دراسات نقدية وكتب كثيرة تتحدّث عن السّمات الفوتوغرافية في لوحاته.
أسلوب فيرمير المتفرّد وتقنياته الثورية تركت أثرها على أجيال كثيرة ومتعاقبة من الرسّامين. من هؤلاء مواطناه بيتر دي هوك Pieterde Hooch وغابرييل ميتسو Gabriel Metsu، بالإضافة إلى كلّ من جوناثان جانسون Jonathan Janson وتوم هنتر TomHunter ، وأخيرا وليس آخرا سلفادور دالي الذي رسم بأسلوبه السوريالي الشاطح والغريب لوحة أسماها The Ghost ofVermeer أو شبح فيرمير..


قسَـم الإخـوة هـوراتـي للفنان الفرنسي جـاك لـوي دافيـد

لم يكن دافيد مجرّد رسّام مشهور فحسب، بل يمكن القول أنه كان أشهر وزير للدعاية والإعلام في زمانه. فغالبية لوحاته مشحونة برسائل حماسية وشعاراتية وبمضامين سياسية ووطنية. وهذه اللوحة تندرج ضمن هذا التصنيف.
وقد رسم دافيد اللوحة بناءً على طلب القصر في فترة كانت نذر الاضطراب والفوضى تخيّم على فرنسا. وبعد أربع سنوات من ذلك التاريخ اندلعت أولى شرارت الثورة الفرنسية.
والفكرة التي تدعو إليها اللوحة هي تغليب الولاء للدولة على كل ما عداه من ولاءات عائلية أو حزبية أو دينية.
في ذلك الوقت، كان من عادة الرسّامين النيوكلاسيكيين، وعلى رأسهم دافيد، أن يستلهموا أحداثا من التاريخ البعيد ليعيدوا رسمها ويسقطوها على الواقع السياسي والاجتماعي السائد آنذاك بعد أن يضيفوا إليها حمولات سياسية وإيديولوجية معيّنة.
موضوع هذه اللوحة استمدّه دافيد من حادثة ورد ذكرها في التاريخ الروماني القديم.
ففي حوالي نهاية القرن السابع قبل الميلاد، قرّر أهالي كلّ من "روما" و "ألبا" أن يحسموا بشكل نهائي وبطريقة غير مألوفة الصراع الطويل والمستمرّ بين الشعبين.
وقد استقرّ رأي الطرفين على أن ينظّموا مبارزة دامية يختارون لكلّ طرف فيها أفضل ثلاثة مقاتلين لديه.
وكان أن اختارت روما لهذه الغاية ثلاثة أشقاء من عائلة هوراتي، كبرى العائلات الارستقراطية فيها. بينما اختارت ألبا ثلاثة أشقاء من عائلة كورياتي المعروفة بنبلها وعراقتها.
الجانب الميلودرامي في القصّة، ولعله أهمّ عنصر فيها، هو أن إحدى شقيقات الإخوة كورياتي، واسمها سابينا، كانت متزوجّة من أحد الإخوة هوراتي. وإحدى شقيقات الهوراتي، واسمها كاميليا، كانت مخطوبة لأحد الإخوة كورياتي.
في اللوحة نرى والد الأشقاء هوراتي حاملا بيده حزمة من ثلاثة سيوف ومحرّضا أبناءه على القتال بشجاعة واستبسال.
نظرات الإخوة الثلاثة تبدو مصمّمة وأيديهم ممتدّة بصلابة بينما يعلنون ولاءهم لروما ويقسمون على التضحية بحياتهم من أجل الواجب الوطني.
جوّ المشهد يوحي بالرهبة. وما يعمّق هذا الشعور طريقة الفنان البارعة في توزيع الضوء وتمثيل الظلال على امتداد مساحات اللوحة.
هناك أيضا هذا التضادّ بين نوعين من الانفعالات المتباينة كما يظهران على جانبي اللوحة.
فإلى اليسار لا يوحي المنظر سوى بالقسوة والعنف والصرامة. فالأب يقف بملامح جامدة ونظرات باردة. انه متحمّس جدّا للقتال لدرجة أن الدم يكاد ينبجس من عروق ساقه النافرة.
وواضح أنه غير مكترث كثيرا باعتبارات النسَب والمصاهرة التي تربط بين العائلتين.
وعلى الجانب الأيمن صورة للضعف الإنساني في أجلى صوره كما يمثله منظر النساء الباكيات الحزينات.
واعتمادا على تفاصيل القصّة، يمكن للمرء أن يتخيّل أن المرأة التي ترتدي الملابس البيضاء هي كاميليا شقيقة الإخوة، وأن التي إلى جانبها هي زوجة أحدهم أي سابينا.
وفي الخلفية تظهر امرأة ثالثة بملابس سوداء وهي تحتضن طفلين يبدو الأكبر منهما وقد اكتسى وجهه بعلامات الخوف والتوتّر.
رسم أكثر من فنّان هذه القصّة وتناولوها باعتبارها لعبة تنافُس على السلطة والنفوذ بين أسرتين ارستقراطيّتين قرّرتا في النهاية التضحية بالمشتركات الإنسانية وانتصرت فيها المصالح السياسية على مقتضيات الحبّ والعاطفة.
غير أن الفنان دافيد اختار، كعادته، أن يشحن القصّة بالتوتّر والفخامة وأن يخلع عليها مضمونا وطنيا ويضمّنها أفكارا عن الاتّحاد وقوّة الإرادة والإصرار والعزيمة.
تعتبر اللوحة أحد أعمال دافيد الأكثر أهميّة، بل وإحدى اللوحات المهمّة في تاريخ الفنّ الفرنسي كله. وقد أصبحت نموذجا للوحات التاريخية التي ظهرت في ما بعد وأضحت ترمز للبطولة والنبل والتضحية.
وهناك من النقاد من يعزو سبب صعود دافيد وشهرته إلى هذا العمل بالذات.
كان الفنان قبل رسمه للوحة قد ذهب إلى روما وأقام فيها لبعض الوقت، حيث وقف على طريقة الرومان في رسم الأعمدة والأقواس وعلى أساليب صناعة السيوف والخوَذ. كما تدرّب على طريقة رسم الملابس المنسدلة وزار بعض المتاحف لمعاينة طرُز اللباس التي كان يستخدمها الرومان الأقدمون.
لكن كيف انتهت المبارزة؟
تقول الروايات إن المعركة أسفرت عن مصرع الإخوة كورياتي الثلاثة. كما قتل اثنان من الهوراتي.
وعندما عاد الثالث إلى بيت عائلته، وجد شقيقته في حال من الحزن والغضب وسمعها وهي تلعن روما التي بسببها مات خطيبها وشقيقاها، فأقدم على قتلها.
وقد ُحكم عليه بالموت على جريمته. لكن تمّ العفو عنه بعد ذلك على أساس أن بطولته وتضحيات عائلته مبرّر كاف للصفح عنه والإبقاء على حياته.