السبت، 19 يونيو 2010

رجـل يمشـي 1 للفنان السويسري البيـرتو جيـاكوميـتي

كان جياكوميتي يعتبر هذا التمثال أهمّ وأفضل أعماله النحتية. كما اعتُبر على الدوام احد أهمّ الصور الايقونية التي ترمز للفنّ الحديث. ومؤخّرا أصبح التمثال حديث وسائل الإعلام وأوساط الفنّ عندما بيع في مزاد بـ لندن بأكثر من 65 مليون جنيه إسترليني ليصبح أغلى عمل فنّي في العالم وليتفوّق على لوحة بيكاسو صبيّ وغليون التي بيعت منذ ستّ سنوات بـ 58 مليون جنيه إسترليني. وقد اشترى التمثال زبون مجهول قيل انه كان ينتظر منذ أربعين عاما أن يُطرح التمثال للبيع.
التمثال يصوّر رجلا يمشي بخطوات عريضة ومتردّدة. ساقاه طويلتان وركبتاه تبدوان غير قابلتين للانثناء وكأنّما يمشي على أجهزة مساعدة. طريقة مشي الرجل تذكّر بشخص نجا للتوّ من كارثة إذ يبدو متجمّدا في منتصف خطوته الكبيرة والمتعثّرة.
عُرض هذا التمثال لأوّل مرّة في بينالي فينيسيا بعد عام من إنجازه. وهو ينتمي إلى المرحلة الطبيعية في حياة النحّات ويمثّل بعض تجاربه عن الشكل الإنساني.
من الواضح أن الشخص في التمثال لا يمشي بغرض النزهة. انه يحدّق في هدف غير منظور ويبدو كما لو أن له وجهة يريد الوصول إليها وهو يعرف أن وقته محدود كي يبلغ غايته.
الشخص الطويل والنحيل مثل خيط يميل بجسده إلى الإمام وكأنه ينوء تحت حمل ثقيل أو يحاول تجنّب رياح قويّة أو يستعدّ لاستلام أو تلقّي شيء ما. انه سيزيف العصر الحديث، كما يصفه احد النقّاد، الذي يدفع حجرا لا يمكن رؤيته في طريق وعر وطويل.
انه لا يمشي فقط. رجل جياكوميتي هو في الحقيقة رمز لكلّ إنسان يشقّ طريقه وسط عواصف وأنواء الحياة. وهو مثال للناس العاديّين الذين يعبرون شوارع وساحات المدينة كلّ يوم. كما يصحّ أن يقال انه رمز لإنسان هذا العصر الذي يكافح ويناضل دائما ويبحث عن السلام والطمأنينة فلا يجدهما.
وقد قيل إن جياكوميتي استلهم فكرة هذا التمثال من أوغست رودان الذي نحت تمثالا بنفس الاسم.
غير أن هناك احتمالا آخر بأن تكون فكرة التمثال قد خطرت له عندما شاهد في التلفزيون صورا لضحايا الحروب من النازحين والمهجّرين الذين كانوا يفرّون من بؤر الصراع بتثاقل وخوف للنجاة بأنفسهم.
وفي إحدى المرّات، قيل إن جياكوميتي صنع التمثال وفي ذهنه حادث السير الذي حصل له في فرنسا وتسبّب في تهشيم قدمه اليمنى. وقد ظلّ لسنوات يمشي مستخدما عصا ومستعينا بساق اصطناعية.
المعروف أن البيرتو جياكوميتي أقام في فرنسا أعواما طويلة وربطته علاقة صداقة وثيقة بالفيلسوف جان بول سارتر الذي كان يمتدحه ويثني على أعماله التي كان يرى فيها تعبيرا عن نظرته الوجودية القاتمة للعالم.
كان النحّات السويسري مفتونا بميادين المدن. وكان يحلم دائما بنحت تماثيل توضع في الساحات والميادين وفي البيئات الحضرية. وقد كان مقدّرا لهذا التمثال في البداية أن يُنصب في نيويورك ضمن مشروع فنّي ضخم كان يهدف إلى تزيين منطقة تشيس مانهاتن بلازا. لكن النحّات انسحب من المشروع بعد أن أيقن أن انجازه سيأخذ منه سنوات طوالا.
اشتهر جياكوميتي بتماثيله التي تصوّر أشخاصا واقفين أو يمشون. ويغلب على شخوصه الضعف ودقّة القوام. وكان من عادته أن يصنع نسخا عديدة من أعماله، لكنه كان يتلف معظمها ولا يبقي في النهاية سوى على واحد أو اثنين.
التمثال ينطوي على تقشّف واضح يجسّد اهتمامات الفنان ومشاغله الوجودية. الأسطح تتوهّج تحت درجات الضوء المختلفة، ربّما في إشارة إلى الطبيعة العابرة والمؤقّتة للواقع. وحركة الشخص تكشف عن نفسها من خلال الفراغ والانفعال.
من الواضح أن النحّات في هذا التمثال، وفي أعماله النحتية الأخرى، يحاول الإمساك بما هو ابعد من الواقع الفيزيائي للشكل الإنساني. هناك أيضا التعامل الثريّ والمرن مع البرونز من خلال ديناميكية الأسطح واستدعاء تفاعلات الضوء والظلّ بحيث تصبح جزءا لا يتجزّأ من العمل نفسه.
يؤثر عن جياكوميتي قوله ذات مرّة: لا أتخيّل أنني يمكن أن انحت امرأة إلا وهي في وضع سكون. الرجل هو الذي يمشي ويخطو. المرأة ساكنة والرجل هو الذي يمشي دائما".
ومن بين أعماله الأخرى المشهورة تمثال يصوّر رجلا يتعثّر قبل السقوط، بالإضافة إلى تماثيل أخرى يظهر فيها أشخاص وهم يمشون بخطى ثابتة ومصمّمة.
ولد البيرتو جياكوميتي في سويسرا ثم انتقل إلى فرنسا حيث درس النحت على يد انطوان بورديل زميل رودان وتعرّف إلى التكعيبية والسوريالية واعتبر في ما بعد احد ابرز المثّالين السورياليين.
الجدير بالذكر أن هناك نسختين من هذا التمثال إحداهما موجودة في غاليري اولبرايت-نوكس للفنون والأخرى في متحف كارنيغي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق