السبت، 19 يونيو 2010

المِــزلاج للفنان الفرنسي جان اونوريه فراغونار

الفنّ الجميل يثير الجدل ويطرح الكثير من الأسئلة ولا يكتفي بإجابات بسيطة أو جاهزة.
وعلى نحو ما، يمكن اعتبار هذه اللوحة تطبيقا للفكرة القائلة إن الفنّ الجيّد يخلق دائما واقعه الخاص.
تنظر إلى هذه اللوحة وتتأمّلها مرارا لتكتشف أن الرسّام يدعوك للدخول في لعبة بصرية مراوغة لا تعرف أين تبدأ ولا كيف تنتهي.
"المزلاج" تعتبر إحدى أشهر اللوحات التي ظهرت في القرن الثامن عشر وهي موجودة اليوم ضمن الجناح الخاص باللوحات الفرنسية في متحف اللوفر.
وقد رسمها فنّان قيل انه، لبراعته، كان يرسم البورتريه في اقلّ من ساعتين. وقد ارتبط اسم فراغونار بالطبقة الملكية والارستقراطية وبالعديد من الرجال والنساء من ذوي الجاه والغنى في عصره.
هذه اللوحة رُسمت بتكليف من احد النبلاء. لكن لم يكن مقدّرا للزبون أن يرى اللوحة في حياته، إذ توفي قبل أن تُنجز.
وفي ما بعد، ظهرت اللوحة على أغلفة بعض الروايات العاطفية كان آخرها رواية فرنسية مشهورة تُرجمت إلى لغات عديدة بعنوان "علاقات خطرة".
المكان الذي تصوّره اللوحة غرفة نوم. وقد قسّم الفنان الغرفة قُطريا إلى جزأين. الجزء الأيمن، أي حيث يقف الرجل والمرأة، وهو مضاء بالكامل. والجزء الأيسر، حيث السرير وملحقاته، يقع في الظلمة.
في الجزء الأيمن نرى رجلا يحتضن امرأة بينما يحاول غلق مزلاج باب الغرفة. المرأة تبدو منهكة ويائسة وهي ترفع نفسها بتثاقل من على السرير.
في الجزء الأيسر من الغرفة تبدو محتويات السرير من وسائد وستائر وفرش وهي على حال من الفوضى وانعدام النظام.
المشهد مليء بالإشارات والاستعارات والرموز التي تفتح على أكثر من احتمال وتدفع بالمتلقي لأن يكوّن تصوّره الخاص حول طبيعة ما يراه أمامه.
لكن يمكن القول إن هناك احتمالين رئيسيين قد يفسّران ما يحدث في اللوحة.
الاحتمال الأول أن اللوحة تحكي عن حادثة اغتصاب أو مقدّمة لعملية اغتصاب. من الواضح أن الشاب يحاول أن يقفل الباب. لكن المرأة تقاومه وتحاول منعه من ذلك. هو يعرف أن نجاحه في إغلاق القفل سيسهّل له مهمّة ارتكاب جريمته. والقفل في هذه الحالة هو رمز لمقاومة المرأة وتمنّعها.
الشابّ يبدو مضطربا والمرأة في حالة قريبة من الانهيار. انفعالاتها وحركاتها تعطي انطباعا بأنها غير راغبة في الإذعان لنوايا الشاب، لذا تدفعه عنها بعيدا.
وضعية وقوف الشابّ تشير إلى أن انتصاره في المعركة يبدو وشيكا وأن استسلام الضحية أمر حتمي. والجدار نفسه يقوم بمهمّة الحاجز الذي يمنع المرأة من الهرب.
الاحتمال الثاني هو أننا أمام صورة مجازية عن الرغبة. طبعا هذا على افتراض أن المرأة راضية ومستسلمة للشاب بإرادتها. وبناءً عليه، يمكن فهم محاولة إقفال الباب على أنها تهدف إلى تأمين حالة من السرّية والخصوصية التي يتطلّبها الموقف.
الرموز في الجزء الأيسر غريبة وموحية. طيّات القماش فوق السرير، النسيج الغامض للقماش، شكل الستائر المجسّمة والكثيفة التي تشبه مصيدة، الوسائد ذات الشكل الغريب، الزهور المرمية على الأرض.. إلى آخره.
هناك أيضا طغيان اللون الأحمر، لون العاطفة والغريزة. والتفّاحة الموضوعة على الطاولة والتي قد تكون رمزا لفاكهة آدم وحوّاء والمرتبطة دائما بالغواية والخطيئة. والسرير نفسه الذي يبدو مثل وحش يكشّر عن أنيابه. والزاوية اليسرى من السرير التي تشبه ركبة إنسان.
الاستخدام الدراماتيكي للضوء في اللوحة يلفت الانتباه. الجانب الأيمن يغمره الضوء الأصفر الفاقع.
الفرشاة في هذه البقعة مشتعلة، مهتزّة ومتوتّرة. والوهج الحارق للأصفر والحرارة المزعجة عنصران إضافيان يعمّقان الإحساس بذروة الصراع أو الالتحام بين الشخصين.
ومع ذلك يظلّ الجزء الأيسر، بما يختزنه من تلميحات ورموز وتهويمات ايروتيكية، هو المهمّ في هذا المشهد لأنه يحكي كلّ شيء وفيه تكمن الرغبات المخبوءة للاثنين.
اللوحة تثير انفعالات متباينة ومعاني متضاربة وتطرح تساؤلات بأكثر ممّا تقدّم إجابات.
هل ما نراه هنا قوس للرغبة أم مسرح لجريمة على وشك أن تتم؟
هل هذه جريمة اغتصاب؟ شروع في القتل؟
هل تنطوي اللوحة على معان شريرة ومظلمة؟ أم أنها مجرّد تصوير لقوّة الحبّ والرغبة؟
هل هذه غرفة الرجل أم المرأة؟
هل يمكن أن يكون الرجل قد احضر الزهور فرفضتها المرأة وصدّته، ما تسبّب في إغضابه وإخراجه عن طوره؟
ثم لماذا إغلاق الباب إذا كانت الغرفة التي تدبّ فيها الفوضى توحي بأن ما حصل قد حصل وانتهى الأمر؟
من حيث الشكل تبدو اللوحة متألقة وجذّابة بألوانها المذابة والدافئة وبالإحساس الناعم الذي يبعثه ملمس الحرير والمخمل الرقيق والمترف.
لوحات فراغونار في معظمها لعوبة، حميمة، مرحة وسهلة الهضم. لذا ليس مستغربا أن يقال انه مات بينما كان يتسلّى بأكل الآيس كريم في احد مشاويره عبر حدائق الشانزيليزيه.
وقدّر له قبل ذلك أن ينجو من مقصلة الثورة الفرنسية، وإن كان دفع ثمن نجاته تلك بتهميشه وكفّ يده عن الرسم.
وقد كانت أعماله تجسيدا لفنّ عصر الروكوكو في فرنسا القرن الثامن عشر. وعُرف عنه براعته في رسم مشاهد الحبّ والمناظر الليلية التي تؤشّر إلى مهارته في تطويع الألوان والتلاعب بنسَب الضوء والظلّ لإضفاء طاقة تعبيرية إضافية على لوحاته.
ولا يكاد يخلو أيّ من أعمال الرسّام من مضامين فلسفية أو أدبية أو اجتماعية أو سياسية أو جمالية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق