الخميس، 24 يونيو 2010

بورتريـه امـرأة مجهــولـة للفنان الروسـي إيفــان كـرامسـكـــوي

هذه اللوحة الجميلة يمكن أن تندرج ضمن تلك النوعيـة من الأعمال التشكيلية التي يقف أمامها الإنسان متأمّلا بصمت روعة تفاصيلها وتناغم ألوانها واتساق خطوطها دون أن يشعر بالحاجة لان يفهمها على المستوى الفكري أو الانفعالي من اجـل أن يقدّر البراعة والإتقان اللذين وظّفا في رسمها.
في هذه اللوحة نرى نموذجا للجمال المثالي للأنثى التي تضجّ ملامحـها بالفتنة الممزوجة بقدر غير قليل من الإثارة والغمـوض.
وقد تكون اللوحة مألوفـة للذين سبق وأن طالعوا رواية الكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي آنـا كارينـينا ، إذ ظلّت صورة المرأة تزيّن غـلاف العديد من طبعات تلك الرواية التي ترجمـت إلى جميع لغات العالم تقريبا.
وقد بلغ من شهرة هذه اللوحة في روسيـا أن بعض النقّاد يضعونهـا ضمن أفضل خمس لوحات في تاريخ الفـنّ الروسي كلّه.
الفنان إيفان كرامسكوي يعود إليه الفضل أيضا في إقناع تولستـوي بأن يوافق للمرّة الأولى على أن يرسم له بورتريه . وهو البورتريه الذي تحـوّل في ما بعد إلى أهمّ أثر تشكيلي يصوّر الروائي الروسـي الأشهر أثناء حياته.
وقد باشر الفنان رسم البورتريه أثناء انشغـال تولستوي بكتابة "آنـّا كارينـيـنا".
ونتيجة لذلك، نشأت بين الرجلين علاقـة شخصية وفكرية وثيقة وأحـسّ كل منهما بالانجذاب نحـو الآخر. وقد وظّف تولستوي شخصـية صديقه الرسّام وجعلـه أحد شخصيات الروايـة.
كان كرامسكوي يركّز في لوحاته على تصـوير الواقع الاجتماعي، وكان يضمّـن مناظره معاني وأفكارا فلسفية. وفي ما بعد، أصبـحت أعماله تمثّل جانبا مهمّا من تاريخ روسيـا وتطوّر مجتمعها وفنـونها.
وقد عُني كرامسكوي في الأساس برسم البورتريهات الشخصية. ومن أشهـر أعماله لوحته "المسيح في البرّية"، بالإضافة إلى لوحاته الأخرى التي رسم فيها كتّابا وعلمـاء وشخصيّات عامّة.
لكن أكثر لوحاته شهرة ورواجا هي هذه اللوحة التي اتبـع فيها طريقته في الغوص بداخل الشخصيـة والنفاذ إلى أعماقها وإبراز سماتها السيكولوجية والروحيـة.
في "بورتريه امرأة مجهولة" نرى سيّدة ذات جمال آسـر وأناقة لافتة، وقد استقرّت على مقعد عربتها المفتـوحة على أحد جسور سانت بيترسبـيرغ.
وهي هنا تبدو بكامـل زينتها، إذ ترتـدي قبّعة حديثة الطراز ومعطفا بلون أسود يتداخـل في نسيجه الحرير والساتان والفراء.
وواضح من ملامـح المرأة وهيئتها المترفة أنها تنحـدر من أصول ارستقراطية.
وفي خلفية المشهد تظهر مجمـوعة من الأبنية التي خلع عليها الضـباب والبرد جوّا من الصفرة الشـاحبة.
بالنسبة للمـرأة، ليس من المتيّسر تماما معرفة طبيعة مزاجها في تلك اللحظـة. لكن نظراتها الغامضة التي تنبئ، ربّما، عن شعور بالكبـرياء قد تخفي وراءها إحساسا ما بالتوتّر أو الحزن.
في بعض الأوقات راجت تكهّنات تقـول إن المرأة المجهولة في اللـوحة هي نفسها بطلة رواية "آنـّا كارينـيـنا".
وتتناول تلك الرواية، التي تحتشـد بالأسئلة الوجودية والمضامين الفلسفية العميقة، قصّة امرأة متـزوّجة أقامت علاقة عاطفية مع رجـل آخر وانتهى بهما الأمر إلى أن أصبحـا منبوذين اجتماعيـا.
وتحت وطأة إحسـاس المرأة بالنبذ وشعورها بالذنب تجـاه زوجها الأول وقلقها من احتمـال ترك عشيقها لها، أقدمـت على الانتحار وذلك بإلقاء نفسـها تحت عجلات أحـد القطارات المسـرعة.
وقد ولدت فكـرة الرواية في ذهـن تولستوي عندما قـرأ تفاصيل تلك الحادثة منشـورة بإحدى الصحف في ذلـك الوقت.
ومؤخّرا، اظهر استفتاء للرأي شارك فيه كتّاب وأدبـاء ونقّاد بارزون أن آنـّا كارينـيـنا تعتبر أعظم عمل روائي كُتـب حتى اليوم.
اما إيفان كرامسكوي فلم يكـن مجرّد رسّام فقط، بل كان أيضا ناقدا ومنظّـرا وأستاذا مرموقا.
وكان يعتقد باستحالة فصـل الأخلاق عن القيم الجمالية، كما كان يدعو دائمـا إلى أن يكون الفنّ أداة للترويج لقيـم الحرّية والكرامة الإنسانية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق