الاثنين، 28 يونيو 2010

مسافـر فـوق بحـر مـن ضبــاب للفنان الألماني كاسبـار ديفيـد فريـدريــش

يقال أحيانا أنه ما من لوحة في تاريخ الفنّ كلّه استطاعت أن تحظى باهتمام الفلاسفة والمؤرّخين وأدباء الحداثة بمثل ما حظيت به هذه اللوحة.
فالرسّام استطاع أن يختزل مشاعر ومزاج عصر بأكمله من خلال وقفة الرجل ونظرته المتأمّلة بعمق.
صحيح أن العالم مفتوح أمامه إذ يقف في ذلك المكان المرتفع الذي يُفترض انه يرى منه كل شيء أمامه وتحته. ومع ذلك فالعالم ما يزال بالنسبة له لغزا يلفّه الضباب ويستعصي على الفهم.
ومعظم المشهد محجوب عن أنظارنا. والمسافر هنا مكشوف جزئيا فقط. حيث أننا لا نراه سوى من الخلف. وليس هناك ما يدلّ على حقيقة تعابيره سوى طريقته في الوقوف التي ربّما تكون المؤشّر الوحيد على مزاجه.
يقول بعض النقاد إن الشخص الواقف أمامنا ليس سوى الفنان نفسه. لكنّ كلّ ما نراه هو رجل غارق في لقاء تأمّلي مع الطبيعة.
والطبيعة هنا لا تكشف سوى عن جزء يسير منها. ورحلة المسافر إلى هذا المكان توفّر له أفقا أوضح وأكثر رحابة ممّا هو متوفّر أسفل.
ومع ذلك، ليس هناك وضوح تام، إذ يتعذّر رؤية ما وراء الضّباب وإن كان بالإمكان محاولة التنبّؤ بما يخفيه.
ورغم مرور كلّ هذه السنوات على ظهور اللوحة، فإنها ما تزال تحتفظ بهالتها وجاذبيّتها وصِلَتها الوثيقة بروح ومزاج عصر الحداثة وما بعدها. وقد أصبحت ترمز إلى غربة الإنسان المعاصر وإلى المستقبل المجهول ومعاناة الإنسان الذي يجد نفسه تائها وهو يبحث عن هدف للوجود أو معنى للحياة.
ولد كاسبار فريدريش في العام 1798 م. وطوال حياته كان شخصا تقيّا متأمّلا مع شيء من التشاؤم والسوداوية.
توفيت أمّه وهو في السابعة من عمره، وبعد ستّ سنوات توفي شقيقه بينما كان يحاول إنقاذ كاسبار من الغرق.
هذا الحادث ترك أثرا عميقا على شخصية الفنان، فظلّ طوال حياته واقعا تحت هاجس الموت والطبيعة والخالق.
وفي بقعة منعزلة من الطبيعة الجميلة وجد كاسبار بعض العزاء والإلهام.
كان يسافر إلى ساحل البلطيق ويزور منطقة الجبال هناك. ويبدو أن تلك المناظر الجليلة وفّرت له موضوعات وأفكارا غنيّة للرسم.
وخلال أسفاره، كان فريديريش يرسم لوحات ذات موتيفات محدّدة مثل أقواس قزح وأشجار السنديان الضخمة التي كان يراها كثيرا في تلك البقعة.
ولأنه وُهب القدرة على ملاحظة الطبيعة وتأمّلها، فقد كان ميّالا للتعبير عنها بعيني مؤمن تقيّ، ما أنتج لوحات ذات قوّة تعبيرية وروحية هائلة.
ويقال إن أعظم انجازات فريدريش هو قدرته على تحويل مناظر الطبيعة إلى كشوفات سايكولوجية وروحية وتعبير مبدع عن الذات. ولوحاته هي من ذلك النوع الذي يُشعِر الإنسان بالتوق الشديد واستدعاء التطلعات والأحلام البعيدة.
وقد رسم هذه اللوحة وكأنه يدعو المتلقي إلى النظر للعالم من خلال عدسة الفنان وإدراكه الخاص.
كان فريدريش مفتونا بفكرة الالتقاء بالطبيعة في حال من التأمّل والعزلة. وكثيرا ما كان يرسم شخوص لوحاته من الخلف، وهو ما أصبح ملمحا مهمّا من ملامح التجربة الرومانتيكية في نظرتها إلى الطبيعة والفنّ.
في اللوحة يركّز الفنان على عناصر التباين. فالطبيعة هنا لا تكشف عن أيّ جمال ظاهري ملفت، بل تعمّد الرسّام التأكيد على رؤيته الخاصة لوظيفة الفن، وهي إبراز الطريقة التي تجعلنا من خلالها الطبيعة نتوق لشيء لا يمكن بلوغه، قد يكون الجنّة الكامنة في طفولتنا حسب التفسير الفرويدي.
وقد عُرف عن فريدريش انه كان مهجوسا بفكرة الموت وما بعد الحياة. وهو في جميع أعماله تقريبا يؤكّد على أن الموت لا ينتظرنا في المقبرة فقط، بل يترصّدنا خلف السحب الداكنة أو أمام قارب اختفى نصفه في السديم أو وراء المدخل المؤدّي إلى أعماق الغابة.
بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كانت لوحات فريدريش قد نُسيت تماما تقريبا، وظلّت مجهولة حتى بداية القرن العشرين عندما أعاد الرسّامون الرمزيون اكتشافها ووجدوا أنها زاخرة بالرؤى والمعاني العميقة. ومن أشهر من تأثروا به السويسري ارنولد باكلين والنرويجي يوهان دال.
ومن المؤسف أن بعض أشهر لوحاته تعرّضت للتدمير والتلف عندما استهدفت طائرات الحلفاء بعض المتاحف في درسدن وميونيخ خلال الحرب العالمية الثانية.
الجدير بالذكر أن لوحات كاسبار فريدريش وموسيقى بيتهوفن أسهمت معا وبشكل كبير في التعبير العميق عن الرومانتيكية الألمانية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق