بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 23 يونيو 2010

صباح الخير مسيو كوربيه للفنان الفرنسـي غوستـاف كـوربيـه

ينقسم النقاد كثيرا حول غوستاف كوربيه. بعضهم يعتبره رسّاما موهوبا. والبعض الآخر يعزو شهرته وذيوع اسمه إلى نرجسيّته وفوضويّته. وثمّة من يزيد على ذلك بالقول إن كوربيه كان فنانا إباحيا ومستفزّا بل وعديم الحياء بدليل لوحتيه "النائمتان" و "أصل العالم".
لوحته "صباح الخير مسيو كوربيه" هي أشهر أعماله على الإطلاق. وقد بلغ من شهرتها أن العديد من الحركات الاشتراكية في العالم استخدمت اللوحة في أدبيّاتها واعتبرت مضمونها ترجمة للشعارات الاشتراكية العتيدة التي تدعو إلى المساواة والحرّية والعدالة.
في اللوحة يصوّر كوربيه حادثة لقائه مع الثريّ الفريد بروياس الذي ُعرف برعايته للفنون وتشجيعه للفنانين.
مكان المقابلة طريق ترابي في منطقة ريفية تحيطها الأشجار والمزارع الخضراء تقع على مقربة من منزل بروياس.
إلى اليمين يبدو كوربيه بمظهره البسيط حاملا أدوات الرسم فوق ظهره. وفي مواجهته يقف بروياس ذو المظهر الأنيق الذي يشي بمكانته وطبقته. وخلف بروياس يقف خادمه الذي يحمل عباءته وأشياءه الأخرى.
لغة الجسد في هذه اللوحة مهمّة ولها دلالاتها. فالرجل النبيل وخادمه يخلعان قبّعتيهما احتراما للرسّام الذي يبادلهما التحيّة بمثلها.
لكنّ كوربيه لا يتنّحى عن الطريق ولا يخفض رأسه بل يرفعه بطريقة مسرحية علامة الاعتزاز والثقة بالنفس، وكأنه يقول لبروياس: لست أنت السيّد وأنا بالتأكيد لست خادما عندك. صحيح أنني فقير لكني في النهاية لست بأقلّ شانا من النبلاء والأغنياء".
إن التفاصيل الصغيرة في هذه اللوحة لها أهميّتها. شكل القبّعات واللحى والعصي والأحذية وكذلك إيماءات الجسد، كلّها تحمل دلالات الطبقة التي ينتمي إليها كلّ شخص كما تتضمّن معاني السيادة والخضوع التي يفرضها التفاوت الاجتماعي في المنزلة والطبقة.
لكن كوربيه المتمرّد لا يعترف بهذا كله. لقد رسم نفسه على هيئة عملاق ضخم الجثة يشمخ برأسه في الهواء في مواجهة شخصين ضئيلي الحجم ولا حول لهما ولا قوّة.
انه يعتبر أن حادثة لقائه بالنبيل تستحقّ أن تسجّل وان يخصّص لها لوحة. وهو لا يأبه كثيرا بحقيقة أن بروياس يستطيع أن يوفّر له الدعم والرعاية أسوة بغيره من الفنّانين. وكلّ ما يهمّه هو أن يظهر نفسه في اللوحة بمظهر الرجل الفخور والمعتدّ بنفسه والمملوء ثورة وحنقا على التقاليد والأعراف الطبقية التي كانت سائدة في فرنسا في ذلك الوقت.
وإمعانا في الزهو والإعجاب بالذات، اختار للوحة هذا العنوان الغريب الذي يريد من خلاله أن يوحي بأن النبيل هو الذي بدأه بالسلام وليس العكس.
إن مضمون اللوحة قويّ ولا شكّ رغم بساطة خطوطها وخلوّها من الألوان المعبّرة، وإن كان تمثيل الظلال فيها ممّا يسترعي الاهتمام.
ممّا يؤثر عن كوربيه قوله لأحد أصدقائه: في مجتمعنا المتحضّر، من الضروري بالنسبة لي أن أعيش كشخص همجي. يجب أن أتحرّر حتى من الحكومات. إنني أتعاطف مع قضايا الناس ويجب أن أخاطبهم مباشرة".
إن احتقار كوربيه الواضح للطبقة البورجوازية كان احد مظاهر تمرّده على الكثير من قيود المجتمع وأعرافه المتوارثة.
وقد بلغ به التحدّي أن رسم لوحة ضخمة الحجم يصوّر فيها مراسم جنازة أحد أعمامه، وقد ملأ اللوحة بصور لأناس من الفقراء ومن عامّة الناس. ومثل هذا النوع من اللوحات الكبيرة والفخمة كانت تخصّص لتصوير الملوك وعلية القوم في ذلك الزمان.
في القرن التاسع عشر، أي زمن كوربيه، سادت الفكرة التي تنادي باستقلال الفنّان. وتزامن هذا مع ظهور البوهيمية التي جاءت كردّ فعل على تلاشي رعاية الدولة للفنون. وقد كان كوربيه جزءا من مجتمع من الكتّاب والموسيقيين والرسّامين الذين تبنوا الأفكار البوهيمية كأسلوب حياة، وكان يجمع بينهم الفقر وحبّ المغامرة والعصيان السياسي وكراهيتهم الشديدة للسلطة وللطبقة البورجوازية.
ولم يكن كوربيه يخفي تعاطفه مع الحركات الثورية التي كانت تنادي آنذاك بالإطاحة بالنظام الملكي. وفي ما بعد أصبح عضوا في اللجنة التي تولّت حكم باريس لفترة قصيرة في العام 1871 م. وبعد أن ُحلّت اللجنة عوقب على أنشطته السياسية بالسجن قبل أن ينفى إلى سويسرا.
اليوم ُينظر إلى غوستاف كوربيه كأحد المؤسّسين الأوائل للحركة الواقعية في الرسم، في زمن كانت السيادة فيه للأساليب الرومانسية والنيوكلاسيكية.


شمشــون و دليـلــة للفنان الهولندي بيتـر بـول روبنــز

كلف نيكولاس روكوكس صديقه الفنان روبنز برسم لوحة تتّخذ من قصّة شمشون ودليلة موضوعا لها كي يعلّقها في منزله.
وشمشون، حسب ما تذكر الأساطير، كان بطلا يهوديا يقال انه كان يتمتّع بقوى وقدرات جسدية خارقة.
وتذكر الروايات الانجيلية أن ملاكا ظهر لامّه قبل أن يولد وأخذ عليها عهدا بأن تحسن تربيته فتمنع عنه الخمر ولا تطعمه إلا الغذاء الطيّب وأن لا تقصّ شعر رأسه أبدا.
ويقال إن شمشون كان يصارع أعداءه فينتصر عليهم لوحده مهما كان عددهم وعدّتهم. وتروي بعض القصص كيف انه صارع سبعا ضخما فصرعه، وكيف اقتلع بوابّات مدينة محصّنة بيديه العاريتين، وكيف أباد جيشا بأكمله وليس معه من سلاح سوى عظمة حيوان ميّت! إلى آخر تلك القصص الغريبة.
وقد حاول أعداء شمشون مرارا القبض عليه أو قتله، غير أنهم لم يستطيعوا.
لكن سقوط شمشون تحقّق عندما وقع في حبّ امرأة جميلة تدعى دليلة. وقد رشا أعداؤه المرأة كي تساعدهم في معرفة مصدر قوّته ومن ثم تمكينهم من السيطرة عليه.
وفي إحدى الليالي وبعد عدّة محاولات من المرأة، كشف لها سرّ قوّته المتمثل في شعره الذي لم يقصّ أبدا.
واللوحة تصوّر هذا الجزء من القصّة.
وفيها نرى شمشون بلحيته السوداء وجسده القويّ راقدا في حضن دليلة في ما يبدو وكأنه نهاية ليلة غرامية طويلة.
صدر المرأة ما يزال مكشوفا وعيناها نصف مغمضتين، بينما انهمك شخص بقصّ شعر شمشون النائم على ضوء شمعة تحملها امرأة عجوز.
وفي الخلفية يظهر تمثال لفينوس وكيوبيد في إشارة إلى أن الحبّ كان السبب في المصير البائس الذي انتهى إليه شمشون.
وعلى الباب، إلى يمين اللوحة، وقف بعض الجند حاملين الشموع وقد ظهرت على وجوههم علامات الحماس والترقّب انتظارا لما سينجلي عنه الموقف.
المشهد يحمل لمسة درامية واضحة . وشكل الإضاءة وألوان الملابس والسجّاد ذو النقوش الشرقية والستائر المسدلة على الجدار وملامح الوجوه وانعكاسات اللحم العاري، كلها عناصر تعطي انطباعا بعمق الإحساس بدراماتيكية اللحظة ومصيرية الحدث.
مما يلفت الانتباه أيضا في اللوحة غموض ملامح المرأة، وليس واضحا هنا ما إذا كانت نظراتها تعبيرا عن الشعور بالانتصار أو الشفقة.
بعد أن ُقصّ شعر شمشون تلاشت قوّته وتمكّن أعداؤه من السيطرة عليه واعتقاله. ثم قاموا بعد ذلك بوضعه في السجن بعد أن سملوا عينيه.
وبعد فترة، أخذ للعمل كمهرّج خلال احتفال للإله داغون. في ذلك اليوم كان المعبد ممتلئا بالناس. ولم يفطن أعداء شمشون إلى أن شعره قد نما وعادت إليه قوّته مرّة أخرى.
وقد طلب من الخادم الذي كان يلازمه أن يجلسه في وسط المعبد. وعندما وصل إلى هناك وقف بين العمودين اللذين يسندان السقف وهزّهما بعنف ليتقوّض المعبد ويموت آلاف الناس تحت ركامه بمن فيهم شمشون الذي كان يردّد جملته المشهورة "عليّ وعلى أعدائي يا ربّ!".
قصّة شمشون ودليلة كانت وما تزال موضوعا للكثير من الأعمال التشكيلية والسينمائية والأدبية.
والدرس الذي تقدّمه القصّة هو أن جمال المرأة قد يكون أحيانا مصدر خطر مميت، وأن الرجل مهما كان قويّا فإن امرأة جميلة بإمكانها أن تروّضه وتعرف نقاط ضعفه وان تستغلّها إلى الحدّ الذي يمكن أن يتسبّب في شقائه وربّما نهايته، خاصّة إن كان الرجل من النوع الذي ينقاد للشهوة بسهولة.
بعض الروايات تقول إن دليلة كانت قد مشت في إثر شمشون محاولة خطب ودّه والتقرّب منه، غير أنه كثيرا ما كان يعرض عنها ويتجاهلها. لكنها بعد فترة أصبحت خليلة لأحد أعتى أعدائه.
وقد استخدمها هذا الأخير للإيقاع بخصمه اللدود. ولما عادت إلى شمشون كان قلبها يشتعل غيظا وحقدا عليه، تحدوها الرغبة العارمة في الثأر لكبريائها بالانتقام منه.
بعد وفاة روكوكس، مالك اللوحة الأصلي، ضمّت إلى مجموعة ليكتنشتاين في فيينا. وفي العام 1980 بيعت اللوحة إلى الناشيونال غاليري في لندن بمبلغ خمسة ملايين جنيه استرليني. ومنذ ذلك الوقت يثور الكثير من الجدل والتساؤلات حول اللوحة. وهناك من النقاد والمؤرّخين من يجادل بأن اللوحة الموجودة في الناشيونال غاليري اليوم ليست سوى نسخة مزيّفة عن اللوحة الأصلية التي رسمها روبنز منذ أربعمائة سنة.



نبـوءات حـافــظ للفنان الإيـرانـي إيمـان مـالكــي

لشدّة واقعية هذه اللوحة ووضوح ودقّة تفاصيلها، قد يظنّها الناظر لأوّل وهلة صورة فوتوغرافية.
وهذه النقطة ربّما تثير بعض الإشكالات والتساؤلات. لكن لا بدّ أولا من قراءة اللوحة والمرور سريعا على بعض تفاصيلها.
في اللوحة نرى شقيقتين تجلسان في شرفة منزلهما المطلّ على منظر حضري.
الكبرى تمسك بنسخة من ديوان حافظ الشيرازي بينما راحت الصغرى تحدّق فيها بانتظار ما ستقرؤه من شعر.
وباستثناء السماء الممتدّة التي يختلط فيها الغبار بالغيم، لا توجد في الخلفية الكثير من التفاصيل ما عدا بعض الأشجار والبنايات التي تلوح من بعيد.
وقد يكون الفنان أراد من وراء الاقتصاد في رسم الخلفية تركيز انتباه الناظر إلى الموضوع الأساسي؛ أي الفتاتين والجوّ الذي يوحي به الحوار في ما بينهما بشأن الكتاب.
المشهد فيه إحساس حالم وقدر غير قليل من الرومانسية. والتعابير البادية على ملامح الفتاتين هي مزيج من الحزن والترقّب.
بالنسبة للإيرانيين، فإن حافظ الشيرازي ليس مجرّد شاعر فحسب، بل هو جزء لا يتجزّأ من الروح الإيرانية نفسها. وربّما لا يضاهيه شهرة وذيوعا سوى عمر الخيّام.
وقد بلغ من شعبية حافظ وتعلّق الناس بأشعاره أنهم يسمّونه ترجمان الأشواق ولسان الغيب، في إشارة إلى قدرته على التنبّؤ بالمستقبل وكشف الحُجُب واستشراف المجهول.
ولا يخلو بيت في إيران من نسخة من ديوانه. وقد اعتاد الناس في مناسباتهم الاجتماعية والروحية على استنطاق الديوان لمساعدتهم في معرفة ما سيحمله لهم المستقبل من أحداث سارّة أو محزنة. ويحدث أن يفتح الشخص صفحة من الكتاب بطريقة عشوائية ثم يقرأ ما هو مكتوب فيها بصوت مسموع. وبذا يستطيع، بمساعدة الشروحات والهوامش المرفقة، قراءة طالعه ومعرفة ما يخبّئه له المستقبل.
ولأن أمور الحبّ والزواج، والمسائل العاطفية عموما، تشغل بال المرأة أكثر من الرجل عادة، فإن النساء هنّ الأكثر إقبالا على قراءة تنبّؤات حافظ وتصديقها باعتبارها معجزات وكرامات.
من الأشياء اللافتة في اللوحة ارتداء الفتاة الكبرى ملابس تقليدية محافظة إلى حدّ ما. كما أنها تلبس خاتم الخطوبة، وهذا تفصيل لا يخلو من دلالة. وثمّة احتمال بأن ما يشغلها أمر قد يكون له علاقة بالمسائل العاطفية من حبّ وزواج وخلافه.
ومن حيث الهيئة، تبدو الفتاة الصغرى أكثر انطلاقا وتحرّرا بدليل بنطلون الجينز الأزرق الذي ترتديه والذي برع الفنان في تصوير تفاصيله وخيوطه الدقيقة.
والحقيقة أن كلّ ما في هذه اللوحة واقعي بامتياز. وهي تذكّر إلى حدّ كبير بلوحات فيرمير و بوغورو .
الألوان الباردة والمتناسقة هي أحد ملامح الجمال والجاذبية في اللوحة. كما أن أسلوب الفنان في رسم السجّاد والملابس ووضعية الفتاتين وملامحهما التي لا تخلو من طهرانية، كل ذلك يخلع على المشهد إحساسا بالبراءة والقداسة. وممّا يعزّز هذا الإحساس طريقة وقوف الفتاة الكبرى وانحناءتها الصامتة والمتأمّلة التي اختار لها الرسّام خلفية كاملة من السماء والغيم.
ولا بدّ للناظر إلى هذه اللوحة أن يتخيّل أن الفنان، وهو يرسم، كان يحاول النفاذ إلى العالم الداخلي والخاص لفتاتين تعمر قلبيهما الكثير من الأحلام والتطلّعات. وقد نجح في تصوير مزاجيهما وروحيهما الشابّة من خلال هذا المنظر الأثيري البديع الذي يمتزج فيه الحلم والبراءة بالجمال المتسامي والمثالي.
في الآونة الأخيرة ازداد الاهتمام برسومات إيمان مالكي وانتشرت لوحاته على نطاق واسع وأصبح اسما معروفا في الأوساط الفنية العالمية. ومؤخّرا نال جائزة بوغورو الفرنسية بالنظر إلى التشابه الكبير بين أسلوب الرسّامَين الإيراني والفرنسي.
الجدير بالذكر أن مالكي تتلمذ على يد الفنان الكبير مرتضى كاتوزيان كما درس في كلية الفنون بطهران ومنذ صغره كان يبدي اهتماما واضحا بالرسم.
ومالكي يعتبر الأخير في سلسلة أسماء الرسّامين الإيرانيين الذين نالوا شهرة عالمية، مثل محمود فرشجيان وفريدون رسولي وكاتوزيان وسواهم.
أسلوب مالكي أعاد إلى الواجهة جدلا قديما حول "أصالة" الأعمال التشكيلية الشديدة الواقعية.
فبعض النقّاد يرى أنها تفتقر إلى الروح والتلقائية وأن لا فرق بينها وبين التصوير الفوتوغرافي الذي ينقل الواقع كما هو وبطريقة كربونية.
كما يرى هؤلاء بأن ما يسمّى "تأثير الكاميرا" يكبّل الفنان ويشلّ مخيّلته ويحرمه من التحليق في فضاء الخلق والإبداع الحقيقي.
لكن هناك فريقا آخر يرى بأن الرسومات التشكيلية الواقعية تتوفّر هي أيضا على الكثير من عناصر الإبداع والمتعة، وأن اللجوء إلى الكاميرا أحيانا لا يعدّ أمرا سيئا. "فيرمير" فعل هذا من قبل وأنتج أعمالا لا يختلف الناس اليوم حول تميّزها وغناها من حيث الشكل والمضمون.
وأيّا ما كان الأمر، يمكن القول إن ألوان مالكي الناعمة ومناظره الحالمة وملامح شخوصه القريبة من القلب تشكّل متعة حقيقية للعين. وإحدى سمات الفنّ الناجح هو انه يوفّر المتعة ويبعث في نفس ووجدان المتلقي إحساسا بالارتياح والبهجة والطمأنينة.


لاس هيلانديراس أو أسطورة اراكنـي للفنان الإسباني دييـغـو فـيلاســكيــز

رسم فيلاسكيز هذه اللوحة في السنوات الأخيرة من حياته. ومنذ ذلك الوقت، ُينظر إليها كأحد أعظم الأعمال التشكيلية التي أنتجها عصر النهضة الأورّبي.
وقد استقطبت اللوحة اهتمام الكثير من النقّاد والمؤرّخين الذين تباينت تفسيراتهم وتحليلاتهم لمضمونها.
وعبر العصور المختلفة حاول الكثيرون "تفكيك" هذه اللوحة في محاولة لكشف أسرارها والاقتراب من عالمها السحري، غير أن ذلك لم يؤدّ سوى إلى زيادة غموضها.
والبعض يعتبر أن هذه اللوحة أشبه ما تكون بلوحة الشطرنج لشدّة إبهامها واستعصائها على أي شرح أو تفسير.
كان فيلاسكيز رسّاما عظيما واستثنائيا وكان سابقا لزمانه بفضل موهبته المبدعة وعقليته الفذّة المفكّرة. وقد رسم لاس هيلانديراس "أو عاملات النسيج بالاسبانية" بناءً على طلب احد أصدقائه في القصر.
واللوحة تتضمّن أسطورة داخل أسطورة. والموضوع الرئيسي فيها استوحاه الرسّام من أسطورة اراكني الإغريقية التي أوردها الشاعر الروماني اوفيد في كتابه التحوّلات The Metamorphoses.
وتحكي الأسطورة قصّة فتاة تدعى اراكني، كانت بارعة في الرسم على النسيج.
وكانت رسوماتها محلّ إعجاب الناس الذين كانوا يتوافدون من أماكن بعيدة لمشاهدتها وهي ترسم. ولم يكن بعضهم يتردّد في دفع أغلى الأثمان مقابل الحصول على قطعة من السجّاد المزيّن بأحد رسوماتها.
وكان أصدقاء اراكني ومعارفها يلحّون عليها بأن تشكر أثينا "آلهة الحكمة والمهن الحرفية" التي أنعمت عليها بتلك الموهبة. لكنها كانت تردّ دائما بأن لا دخل للآلهة في الأمر، وأنّ مهارتها نابعة من جدّها ومثابرتها وإصرارها على تعليم نفسها بنفسها.
وبلغ من ثقة اراكني بذاتها أنها كانت تجاهر بالقول أن بإمكانها أن ترسم بأفضل ممّا ترسم الآلهة.
وحسب الأسطورة، كان على أثينا أن تتدخّل لكبح غرور اراكني ومعاقبتها على تحدّي الآلهة والتنكّر لنعمتها.
وفي أحد الأيام تجسّدت الآلهة أثينا على هيئة امرأة عجوز. وقالت مخاطبة اراكني: إن غرورك واعتدادك بنفسك اكبر من موهبتك، وأنّ الآلهة لا يمكن أن تتسامح معك أو تغفر لك تجاوزك وسخريتك".
واللوحة تصوّر هذا الجزء من الأسطورة.
في مقدّمة المشهد إلى اليسار نرى النقاش الذي يجري بين أثينا المتخفّية في زيّ امرأة عجوز واراكني "العاصية".
اراكني الممسكة بطرف الستارة الحمراء والمصغية باهتمام لحديث العجوز لا يظهر من تعابيرها أو ملامحها أنها تدرك خطورة العقوبة التي تنتظرها. كما لا يبدو أن الفتيات الأخريات مهتمّات أو معنيّات بما يجري.
وفي منتصف اللوحة، تقريبا، نرى فتاة ترتدي فستانا احمر وتنظر بصمت إلى أسفل. ووضعية جلوسها والطريقة التي تنظر بها هما عنصران قد يكون الفنان وظفهما لإثارة انتباه الناظر إلى أن ثمّة رابطا بين ما يجري في معمل النسيج وما يحدث على المسرح في الخلفية.
مقدّمة اللوحة معتمة نسبيا والإضاءة تتركّز في الخلفية لأنها تحكي الجزء الأهم من الأسطورة. هناك بوسع الناظر أن يرى صورة حيّة عن ما يجري، ويبدو الأشخاص في ذلك الجزء واقفين في وضعية مرتّب لها جيدا ويتحرّكون بطريقة لا تخلو من مسرحية.
في الخلفية يظهر ما يشبه المحراب المزيّن بالنقوش والألوان الجميلة. هذا المنظر الذي لا يخلو من مهابة وجلال يعطي انطباعا بأن هذه البقعة تمثّل المجال المقدّس لأثينا الحقيقية التي تظهر هناك مع مجموعة من وصيفاتها وقد اتخذت هيئة عسكرية وارتدت قبّعة نحاسية وهي تتلو الحكم على اراكني والذي يقضي بأن تتحوّل إلى عنكبوت!
وفي الخلفية أيضا، على الجدار، نرى جزءا مما يفترض انه آخر قطعة نسيج رسمتها اراكني وهي نسخة من لوحة فنّان عصر النهضة الايطالي تيتيان "اختطاف أوروبّا The Rape of Europa" وهي أسطورة إغريقية أخرى تروي قصّة اختطاف زيوس لأوربّا ابنة ملك فينيقيا بعد أن بهره جمالها.
ترى هل أراد فيلاسكيز من وراء اختيار هذه اللوحة بالذات ووضعها في الخلفية الإيحاء بأن غضب الآلهة على اراكني كان مضاعفا على اعتبار أنها تجرأت على ذكر تجاوزات كبير الآلهة الذي يبدو في مشهد لا يخلو من الحسّية والإثارة؟
ولماذا اختار الفنان أن يضع ذروة الحدث في الخلفية وليس في الجزء الأمامي من اللوحة كما يقتضي المنطق؟
وهل تتضمّن اللوحة رسائل ضمنية من نوع ما، سياسية أو اجتماعية؟
أيّا تكن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، فإن من الواضح أن اللوحة تتحدّث عن طبيعة الفن وعن العلاقة بين الإبداع والتقليد، الإله والإنسان، والطالب والتلميذ. وربّما أراد الفنان أن يقول إن الرسم ذو طبيعة مقدّسة تميّزه عن المهن والحرف الشعبية التي لا يتطلب الإلمام بها الكثير من الإبداع والثقافة.
وممّا لا شكّ فيه أن اللوحة – الأسطورة تنطوي على فكرة أخلاقية وتربوية مهمّة، وهي أن على الإنسان مهما أوتي من علم أو معرفة أو دراية أن يتحلّى بالتواضع وأن يحذر من مغبّة تضخيم الذات وأن يدرك أن هناك دائما من هو أعلم منه وأكثر مهارة وتفوّقا.
الألوان هي إحدى السمات البارزة في اللوحة حيث تبدو على درجة عالية من التناغم والحيوية. ثم هناك الكتل والفراغات التي تذوب وتتداخل مع بعضها البعض في إيقاع متناسق. فكل شخص وكل تفصيل مرسوم في المكان الذي يجب أن يكون فيه، والمسافات والأبعاد محسوبة بدقّة وعناية. وفيلاسكيز كان معروفا عنه براعته في توزيع الكتل واستخدام الألوان وتشكيلها ومزجها.
إن كل لوحة من لوحات فيلاسكيز تثير الأسئلة والنقاشات التي لا تنتهي. وهو كان ميّالا لمزج الرسم بالفكر والفلسفة.
وربّما كان يبغي من وراء ملء مناظره بالرموز الغامضة والإشارات المبهمة أن يؤكّد على أن الرسم فنّ متغيّر بطبيعته، وأن تفسير العمل الفني يتفاوت من شخص لآخر ويختلف ويتغيّر مع تغيّر الظروف والأوضاع.
وهناك اليوم من النقّاد والمؤرّخين من أوقفوا حياتهم على دراسة لوحات فيلاسكيز واستكناه معانيها ودلالاتها وأصبحوا يسمّون بـ "الفيلاسكيزيين" نسبة إلى اسم الفنان.
وأخيرا توحي هذه الأسطورة بأن أصل النسيج يعود إلى تقليد الإنسان ومحاكاته للعنكبوت. ومن اسم "اراكني" بطلة الأسطورة اشتقّ في ما بعد مصطلح "الاراكنوفوبيا" الذي يرمز إلى ظاهرة الخوف المرضي من العناكب.


في ذكرى الشاعرة برفين اعتصامي للفنان الإيراني مرتضـى كاتوزيـان

يقال أحيانا أن الشعر يصبح مفهوما أكثر عندما يتحوّل إلى موسيقى أو إلى عمل تشكيلي.
والفنان، رسّاما كان أم شاعرا أم موسيقيا، اعتاد أن يرى العالم بعين أكثر حساسية وشمولا، فهو يلتقط التفاصيل ويلاحظ الحالات والظواهر المختلفة ويستمتع برصدها وتأمّلها وتصويرها.
في هذه اللوحة الجميلة يصوّر مرتضى كاتوزيان منظرا استوحاه من قصيدة للشاعرة الإيرانية الراحلة برفين اعتصامي تتحدّث فيه عن طفل يكسر آنية خزفية عن غير قصد ثم لا يجرؤ على العودة إلى البيت خوفا من غضب والده.
اعتصامي اشتهرت بمواقفها وأفكارها وقصائدها الجريئة الداعية لتحرير المرأة.
وقد تأثرت بأفكار والدها الذي كان هو الآخر مناصرا لحقوق النساء، كما عرف عنه ترجمته لكتاب الشيخ قاسم أمين "تحرير المرأة" إلى الفارسية.
وقد توفيت اعتصامي عن عمر لا يتجاوز الخامسة والثلاثين بعد تجربة زواج فاشل لم يدم أكثر من شهرين. وفي أخريات حياتها كتبت قصائد حزينة تتعاطف فيها مع الفئات المحرومة في المجتمع خاصة الأطفال الفقراء واليتامى.
في اللوحة نرى طفلا بملامح بريئة وملابس رثّة وهو جالس يغالب النعاس في زاوية بأحد الشوارع. والى جواره تبدو آنية فخار مكسورة.
المشهد يوحي بالفقر الشديد: الجدران في الخلفية وكذلك ملابس الطفل خصوصا البنطلون المهلهل والمرقّع بقطع حمراء وسوداء.
اللوحة يغلب عليها اللونان الأصفر والبنّي وظلالهما. وثمّة تناغم وتناسق واضح بين الألوان كما يبدو جليا أيضا إتقان الفنان رسم الأطراف. وإن كان يلاحظ أن القدم اليمنى للصبي تبدو اكبر قليلا من عمره المفترض.
هناك أيضا الظلال التي رسمت بعناية وبراعة لافتة. والمنظر بأكمله يدفع الناظر إلى التعاطف مع الحالة الإنسانية التي تجسّدها اللوحة.
مرتضى كاتوزيان يعتبر واحدا من أشهر الفنانين التشكيليين في إيران.
والبعض يصفه بأنه رسّام الفقراء والمهمّشين. وهو ينتمي للطبقة الوسطى وينحدر من عائلة تحبّ الرسم والفنون. ومعروف أن كاتوزيان لم يتتلمذ على يد احد بل علّم نفسه بنفسه إلى أن اخذ أسلوبه في الرسم في النضج والتبلور.
التأثير المتبادل بين الشعر والرسم أمر ليس بالطارئ ولا بالجديد. فـ يوهان فيرمير، مثلا، استوحى مواضيع بعض لوحاته من قصائد أو روايات.
في المقابل تحوّلت عناوين وأجواء بعض لوحات فان غوخ ورينيه ماغريت ووليام ووترهاوس وادفارد مونك إلى أعمال شعرية وروائية وموسيقية.
عنوان لوحة كاتوزيان ربّما يثير ملاحظة قد تبدو شكلية إلى حدّ ما، فهو يبدو طويلا بعض الشيء وقد يراه البعض مملا وغير مناسب. ولو أن الفنان اختار للوحة عنوانا مختصرا مثل "الإناء المكسور" أو "آنية الخزف المكسورة" لكان وقعه أفضل وأجمل. في حين يمكن وضع العنوان الطويل في حيّز فرعي وبين قوسين للتأكيد على فكرة اللوحة وتوضيح مناسبتها.
أما فكرة رسم طفل أو طفلة والى جواره آنية أو مزهرية مكسورة فهي فكرة قديمة في الفنّ وطالما استهوت العديد من الرسّامين.
لكن يمكن القول إن أشهر لوحات هذه الثيمة وأكثرها انتشارا ورواجا هي لوحة رسّام القرن التاسع عشر الفرنسي ايميل مونيير EmileMunier's The Broken Vase بعنوان المزهرية المكسورة.


بـورتريـه دراكـيــولا (القرن الخامس عشر الميلادي)

يعتبر دراكيولا احد أشهر الشخصيّات التاريخية التي ظهرت في أوربّا خلال القرون الوسطى.
وقد ُنسجت عن هذا الرجل وعن حياته الكثير من الأساطير والقصص الغريبة، وأصبح مادّة للعديد من الأعمال الأدبية والمسرحية والموسيقية، وكُتب عنه الكثير من الدراسات النفسية والانثروبولوجية التي تتناول ظاهرته بالدراسة والتحليل.
وطوال الخمسمائة عام الأخيرة أصبح دراكيولا (واسمه الأصلي فلاد تيبيس Vlad Tepes) رمزا للساديّة والعنف والوحشية.
ويحتفظ التاريخ المدوّن بقصص تقشعر لها الأبدان، وأحيانا تستعصي على التصديق، عن مدى همجية هذا الرجل وقسوته المتجاوزة.
فقد ُعرف عنه انه كان يعاقب أعداءه بإلقائهم في النار أو في صهاريج الزيت المغلي أو بسلخ جلودهم وهم أحياء.
لكن معظم ضحاياه ماتوا على الخازوق، وتلك كانت وسيلته المفضّلة في قتل خصومه. ولهذا الغرض كان يقيم حفلات إعدام جماعية يتناول خلالها الطعام مع النبلاء وسط صرخات وأنين الضحايا المحتضرين. ويبدو أن غايته من وراء استخدام تلك الأساليب الرهيبة كانت ردع كل من تسوّل له نفسه خيانته أو التآمر عليه.
والغريب أن بعض النبلاء الذين كانوا يحضرون معه حفلات الإعدام تلك انتهى بهم الأمر في نهاية المطاف إلى الإعدام بنفس الطريقة.
وفي إحدى المرّات عمد إلى دقّ رؤوس مبعوثي السلطان العثماني محمّد الفاتح بالمسامير لأنهم رفضوا خلع عمائمهم في حضرته.
وتذكر بعض الروايات أن دراكيولا كان يستحمّ بدماء بعض ضحاياه لكي يحتفظ بشبابه وقوّته.
السؤال الذي قد يكون خطر بذهن كلّ من قرأ شيئا عن سيرة حياة هذا السفّاح الكبير هو: ترى كيف كانت هيئته وكيف كانت تبدو ملامح وجهه؟
هذا البورتريه، الشهير والمألوف كثيرا، يوفّر بعض الإشارات التي تقود إلى إجابة ما عن هذا السؤال.
في البداية، لا يُعرف على وجه التحديد من رسم البورتريه. لكن أهميّته أنه ُرسم أثناء حياة دراكيولا، أي أن الرسّام إما انه رأى الرجل عيانا أو انه على الأقل سمع بعضا من أوصافه على ألسنة الناس الذين رأوه.
واللوحة تثير مجدّدا السؤال القديم عن العلاقة بين ملامح الإنسان أو شكله الخارجي وبين نمط سلوكه وطبيعة تصرّفاته.
ملامح الوجه غريبة إلى حدّ ما. هنا لا عظام ولا دم ولا عضلات. العينان واسعتان والأنف حادّ ودقيق والحواجب رفيعة والشارب طويل، مجعّد وملفوف. شعر الرأس هو الآخر طويل، كثيف ومجعّد. ويمكن للناظر أن يتخيّل لأول وهلة أن الشعر الطويل جزء من غطاء الرأس.
الانطباع الذي يوحي به بورتريه دراكيولا هو أننا أمام رجل صارم وقويّ الشخصية، بدليل فمه المطبق ونظراته النافذة والتي تشي بسيطرته على كلّ ما حوله ومن حوله.
شكل العمامة التي يضعها على رأسه لا تخلو من أناقة تبدو شرقية الطابع. وهناك في وسطها نجمة ذهبية تتوسّطها لؤلؤة حمراء.
تقول بعض المصادر التاريخية إن الجيش التركي ضرب حصارا على قلعة ترانسيلفانيا حيث كان دراكيولا يتحصّن. وبعد أيّام من الحصار هرب عبر نفق تحت الأرض ليختبئ في الجبال. لكن زوجته فضّلت أن تلقي بنفسها من أعلى القلعة لتلقى حتفها.
غير أن دراكيولا لم يلبث أن لقي مصرعه على يد الأتراك في العام 1476م.
وقد ُقطع رأسه وأرسل إلى السلطان العثماني في القسطنطينية فيما ُدفنت بقاياه في أحد الأديرة.
بعد قرون، أمرت السلطات الرومانية بحفر القبر، لكن لم ُيعثر فيه سوى على عظام حيوان ميّت. وهذا أفسح المجال لرواج شائعات تقول إن قوى شيطانية اختطفت الجثة وأن دراكيولا تحوّل بعد ذلك إلى مصّاص للدماء بعد أن لحقته اللعنة الأبدية.
وبعد أربعمائة عام على اختفائه، استؤنف الحديث مجدّدا عن دراكيولا بفعل النجاح الساحق الذي حقّقته رواية دراكيولا للكاتب الايرلندي برام ستوكر.
هذه الرواية تحوّلت في ما بعد إلى فيلم سينمائي أخرجه فرانسيس فورد كوبولا وشكّلت بداية حقبة مهدّت لرواج فكرة الفامبايرزم Vampirism أو تقليد مصّ الدماء وانتشارها على نطاق واسع، حيث أصبحت موضوعا للعشرات بل المئات من الأعمال الروائية والمسرحية والسينمائية التي تمتزج فيها الحقيقة بالخيال.
بشكل عام، يمكن القول إن هذه اللوحة قد لا تنطوي على قيم جمالية ظاهرة، لكن أهمّيتها تتلخص في كونها تقدّم صورة بصرية مقرّبة عن الطبيعة الشرّيرة والقاسية لصاحبها.
بعض معاصري دراكيولا يصفونه بأنه كان رجلا صارما شديد المراس ذا عينين خضراوين واسعتين وحواجب كثّة وعنق ضخم.
دراكيولا لم يكن الطاغية الوحيد الذي مثّلت شخصيّته تشكيليا، فهناك العديد من اللوحات والأعمال النحتية التي تصوّر شخصيّات كريهة أخرى مثل نيرون وجنكيز خان وكاليغولا وغيرهم.
أما بالنسبة للفامبايرزم فقد أصبح اليوم ثقافة شعبية قائمة بذاتها في الغرب وجزءا لا يتجزّأ من الأدب والفنّ وحتى الفلكلور.
وتحتشد الأفلام السينمائية التي تتحدّث عن هذه الظاهرة، عادة، بصور الأشباح والقبور والقلاع المظلمة والخفافيش والذئاب والبوم والبرق والمطر والعواصف وضوء القمر الشاحب والضباب.
وبعض النقاد يرجعون أسباب هوس الناس بالفكرة إلى كونها تلامس مخاوف الإنسان العميقة كما أنها ترتبط بالجوانب المظلمة للطبيعة البشرية.
وهناك أيضا الجانب المتعلق بميل الإنسان لكل ما هو ممنوع وتطلعه للشباب الدائم والخلود.
ثم هناك أيضا عنصر الدم نفسه الذي يحتلّ مكانا مركزيا في الشعور الديني من حيث ارتباطه بالتضحية والتطهير.
وأخيرا هناك عنصرا السلطة والإغراء الجنسي اللذان أصبحا جزءا لا يتجزّأ من صورة مصّاص الدماء كما يقدّمه الأدب والفنّ.


الأمــــل للفنان البريطاني جـورج فريدريـك واتـس

قد لا تصنّف هذه اللوحة ضمن الأعمال الفنّية التي تثير الفرح أو تبعث على البهجة والارتياح، لكنها مع ذلك تحمل فكرة إنسانية عظيمة وتثير أجمل وأنبل ما في النفس الإنسانية من مشاعر وأحاسيس.
عندما أتمّ جورج واتس رسم اللوحة منذ أكثر من مائة عام، سرعان ما وجدت طريقها إلى كلّ بيت وأصبحت حديث الناس والنقاد، على السواء، في بريطانيا.
وبالنظر إلى مضمونها العاطفي والإنساني العميق، فقد انتشرت اللوحة حول العالم واستنسخت مرارا وتكرارا وظهرت العديد من قصائد الشعر التي تستمدّ من مضمون اللوحة موضوعا لها.
العنوان قد لا يدلّ على جوّ اللوحة، إذ نرى امرأة معصوبة العينين وحافية القدمين وهي تجلس في وضع انحناء فوق ما يبدو وكأنه مجسّم للأرض بينما راحت تعزف على آخر وتر تبقّى في قيثار مكسور.
تعابير وجه المرأة غامضة إلى حدّ ما، بينما يغرق المشهد كله في موجات مهتزّة من اللازوردي والأصفر بتدرّجاتهما المشعّة.
بعض النقاد يرون أن اللوحة تعبّر في الواقع عن اليأس وتثير إحساسا بالحزن، بينما يرى آخرون أنها تعبّر عن تمسّك الإنسان بالأمل ورفضه الاستسلام لليأس. فالمرأة مستمرّة في العزف حتى بعد أن لم يتبقّ في قيثارتها سوى وتر وحيد.
واتس كان احد أعظم الفنانين الذين ظهروا خلال العصر الفيكتوري، وكان للوحاته مضامين رمزية؛ أخلاقية وفلسفية وروحية.
في ذلك العصر كان الفنانون والأدباء والشعراء مفتونين بالموسيقى وعناصر الجمال المختلفة. ومثل معظم معاصريه، كان واتس منشدّا إلى فكرة الموت، إذ كان يرى فيه مفسّرا للحياة وامتدادا لها.
وربّما لهذا السبب، تروق لوحاته كثيرا للمتديّنين وللفئات الاجتماعية المحرومة، بالنظر إلى طبيعتها الروحية التي تضفي على مشاعر الحزن والألم واليأس طابعا من الجمال والنبل والقداسة.
كان واتس يرسم الأفكار لا الأشياء، وكثيرا ما كان يحيط شخوص لوحاته بأجواء ضبابية أو غائمة للإيحاء بأنها انعكاس لأفكار ورؤى معيّنة.
وكان يعتقد دائما أن باستطاعة الفن أن يعبّر عن قوّة الحياة وإرادة الإنسان.
وفي الوقت الذي كان معاصروه يميلون إلى تصوير الأمل والمعاناة والحزن والحياة والموت على هيئة نساء إغريقيات يرتدين ملابس طويلة وشفّافة، كان واتس يجد كل هذه المعاني والظواهر داخل نفسه ويعبّر عنها بمناظره التي يرسمها اعتمادا على معرفته وخبراته الذاتية وميله للتأمّل والنزوع الفلسفي.
والذي يتملّى البناء الفنّي لهذا اللوحة المتميّزة لا بدّ وأن ينصرف تفكيره إلى لوحة بيكاسو الشهيرة عازف الغيتار العجوز، التي تصوّر عجوزا أعمى يعزف على غيتاره بلا اهتمام.
وهناك من المؤرّخين والنقاد من ذهبوا إلى أن لوحة واتس، الموجودة اليوم في متحف تيت البريطاني، تتضمّن صورة سياسية مجازية، وأن المرأة ليست في الحقيقة سوى رمز لبريطانيا التي فتحت العالم وبلغت أوج مجدها وانتصاراتها خلال حكم الملكة فيكتوريا.
لكن ذلك كله لم يجلب السلام ولم يحقّق للناس السعادة وراحة البال التي كانوا يتطلعون إليها في ذلك الوقت.


مــزاج مسـائــي للفنان الفرنسي ويليـام بـوغـورو

كثيرون هم الرسّامون الذين فتنوا بتصوير الجسد الأنثوي. وربّما لا يوجد رسّام واحد لم يحاول ذات مرّة رسم شكل لأنثى. وكان هذا يعتبر دائما مقياسا على براعة الرسّام وأصالة موهبته.
وفي أغلب الحالات، لم يكن رسم الأنثى العارية مدفوعا بالبحث عن فكرة فلسفية أو تجربة ثقافية ما، بل كان تعبيرا عن افتتان الفنان بالجانب الحسّي للموضوع.
ومن بين أشهر الأعمال الفنية التي تصوّر الشكل الأنثوي هذه اللوحة الرائعة لويليام بوغورو. وفيها نرى امرأة فاتنة، غُطّي جسدها جزئيا، بينما تقف بجلال على شاطئ البحر وقت هبوب العاصفة.
ويلاحَظ أن الفنان حرص على تغطية الجزء السفلي من جسد المرأة بينما أبقى على صدرها مكشوفا.
المشهد يذكّرنا بأفرودايت، "أو لعلّها كياندا أو ثيامات أو ثالاسا"، وهي تبدو هنا كما لو أنها تتأمّل هويّتها كأنثى محاولة اكتشاف طبيعتها الخاصّة كما تعكسها السمات الأنثوية للعالم.
المعروف أن الأنثى ارتبطت دائما ببدايات الكون وأصل الحياة. وبعض الأساطير القديمة تصوّر آلهة البحر والخصوبة على هيئة امرأة تخرج من البحر مبشّرة بالميلاد وبالبدايات الأولى للخلق.
ومنذ القدم، اقترنت صورة الأنثى بالعناصر والفصول وبعالم الطبيعة. وفي الكثير من ثقافات العالم، ترمز الأنثى لدورة الحياة ولطقوس العبور أو التحوّل من طور لآخر. وفي هذا إشارة إلى وجود المرأة الأزلي وحضورها الدائم الذي يتجاوز حدود المكان والزمان.
بوغورو اختار للوحة هذا العنوان "مزاج مسائي"، ربّما لكي يبتعد عن التسميات النمطية التي كانت شائعة في زمانه والمستمدّة من الأساطير. وقد يكون اختار هذا العنوان كي يضفي على الموضوع مضمونا معاصرا. بالإضافة طبعا إلى ما يوحي به العنوان من مسحة شاعرية، وهي سمة غالبة على معظم أعمال هذا الفنان.
علاقة الأنثى بالبحر علاقة وثيقة وقديمة. وهناك العديد من الأعمال الفلسفية والأدبية والفنية التي تتحدّث عن هذه الجزئية بالذات. فالبحر يرمز للرحم وما يتّصل به من دلالات الخصوبة والخلق والميلاد. وهناك اعتقاد قديم يقول بأن الحياة بدأت، أوّل ما بدأت، في الماء.
من الواضح أن هذه اللوحة نفّذت بأسلوب رقيق ينمّ عن شاعرية عالية، يميّزه هذا النسيج البديع وهذه الألوان المترفة والساحرة.
وبالإضافة إلى تناغم الألوان، هناك طريقة رسم الوشاح المنسدل على جسد المرأة، بالإضافة إلى الأسلوب البارع الذي اتبعه الفنان في رسم حركة الجسد وجعله يتداخل ويتناغم مع حركة الموج.
في العصر الذي عاش فيه بوغورو، كان الناس يغضّون الطرف عن اللوحات التي تصوّر نساءً عاريات، شريطة أن توضع ضمن سياق أسطوري أو ديني أو تاريخي.
وخلال القرون الوسطى كانت صورة المرأة العارية مرادفة للشرّ والموت والرذيلة. وبحلول عصر النهضة تغيّرت الحال وأصبحت صورة المرأة العارية رمزا للمثالية أو الحسّية. وطوال القرون الخمسة الأخيرة ُرسمت آلاف اللوحات الفنية التي تصوّر نساءً عاريات على هيئة آلهات وقدّيسات وحوريّات في أوضاع مختلفة وبحالات تتراوح ما بين الايروتيكية والارتقاء والتسامي الروحي.
والمتأمّل في تفاصيل هذه اللوحة البديعة لا بدّ وأن يلاحظ الأسلوب المرهف الذي تمّ به تمثيل الوجه ذي التعابير الغامضة والأطراف وتفاصيل الجسد الأخرى. وهذا كلّه يشي بمعرفة الفنان الواسعة بالتشريح وتناسب الأعضاء، كما انه يشير إلى أن الرسّام خطّط لهذه اللوحة جيّدا وعمل عليها مرّات ومرّات إلى أن أخذت شكلها النهائي.
ساندرو بوتيشيللي يعتبر أول فنّان رسم الأنثى العارية. وتعتبر لوحته "مولد فينوس" إحدى أشهر الأعمال الفنية التي عالجت الفكرة.
في الحضارات القديمة، كان الجسد الذكوري العاري هو المهيمن، ونادرا ما كان احد يفكّر في رسم امرأة عارية. وكانت التماثيل التي تصوّر رجالا عراة منتشرة في كل مكان، حيث كان ينظر إلى الرجل باعتباره تجسيدا لكمال الإنسان الجسدي والمعنوي.
ومن الأمور اللافتة أن الإغريق لم يكن يستهويهم جسد المرأة ولم يكن يحرّكهم الجمال الأنثوي كثيرا. كانوا يرون ذروة الكمال في جسد الرجل، وكان الجسد الذكوري العاري عندهم جزءا مهمّا من الأدب ومن الحياة بشكل عام.
مايكل انجيلو، فنان عصر النهضة الايطالي، كان يرسم الرجال غالبا. ومن شدّة تعلّقه بالجسد الذكوري كان يرسم نساءه في هيئات ذكورية وبقوام صارم وعضلات بارزة.
وعلى النقيض من مايكل انجيلو هناك فنّانون رسموا رجالا بملامح أنثوية.
وليام بوغورو يُنظر إليه اليوم على انه احد أعظم الرسامين في التاريخ. وقد كان متأثّرا بالمدرسة الكلاسيكية الايطالية. وبعد وفاته ترك أكثر من 700 لوحة تتناول مواضيع تاريخية وأسطورية ومن الحياة اليومية.
وبعض النقاد يعيبون على أعمال بوغورو خلوّها من المضامين السياسية والاجتماعية، ويسوقون ذلك باعتباره دليلا على ابتعاد الفنان عن مشاغل واهتمامات الناس في فرنسا القرن التاسع عشر.


حقـل قمـح و أشجـار سـرو للفنان الهولندي فنسنـت فــان غــوخ


رسم فان غوخ هذه اللوحة بعد حوالي شهر من وصوله إلى المصحّة النفسية في آرل.
وخلال فترة مكوثه في المستشفى، كان الأطبّاء يسمحون له بالذهاب إلى الحقول المجاورة ليمارس هوايته في الرّسم كلما خفّت نوبات الصرع التي كانت تنتابه من حين لآخر.
ومن بين أشهر لوحاته التي أنجزها آنذاك هذه اللوحة التي تشير إلى مدى تأثّر فان غوخ بالأسلوب الياباني في الرسم، وخاصّة طريقة تمثيل الخطوط واستخدام الألوان.
في اللوحة نرى حقلا للقمح يقوم في وسطه وعلى أطرافه عدد من أشجار السرو. وبالإضافة إلى الأشجار، تبدو بعض التلال والجبال والأعشاب تحت سماء غائمة.
ولعلّ أهم ما يميّز هذه اللوحة عمق منظورها وسماكة نسيجها وإيقاع الأشكال فيها، بالإضافة إلى صفاء ألوانها التي تصوّر حيوية الربيع وبهاءه.
كان فان غوخ يراقب الأشجار من نافذة غرفته في المستشفى، وفي إحدى رسائله لأخيه ثيو يقول: لطالما أثارت هذه الأشجار تفكيري. وأجد من الصعوبة بمكان أن أتجنّب رسم هذا الحزن وهذه العزلة النهائية. إن هذه اللوحة ستخبرك عما عجزت أنا عن التعبير عنه بالكلمات وهو ما اعتبره مصدر الإلهام والسعادة في حياة الريف".
إن الناظر إلى هذه اللوحة لا بدّ وان يتخيّل أن كلّ شيء فيها يتحرّك. إذ بفعل ضربات الفرشاة الملتفّة كالدوّامة، تبدو الأشجار مضطربة والعشب كما لو أنه يتطاير مع الريح، ما يبعث شعورا غامضا بالتوتّر والخطر المحدق.
ارتبطت أشجار السرو منذ القدم بالموت وأحيانا بالخلود. وفي بعض الحضارات الشرقية القديمة كانت ترمز للكمال والجلال والحكمة.
فان غوخ كان هو أيضا مفتونا بالنظر إلى أشجار السرو متأمّلا أشكالها وألوانها وطريقة تموضعها في الطبيعة المفتوحة.
أثناء وجوده في المستشفى، كان فان غوخ منكبّا على التأمّل في حال الأدباء والشعراء والفنّانين الذين نجحوا في فهم واستكناه المشاعر والحالات الإنسانية العميقة وجسّدوا ذلك في أعمالهم.
وكان هو نفسه يتمنى أن يعكس في لوحاته جانبا من تلك المشاعر وأن يكون لأعماله نفس التأثير الانفعالي والعاطفي.
وفي سنواته الأخيرة أصبح ميّالا لرسم مشاهد نهارية وبات من النادر رؤية مناظر الفجر والغسق التي كانت تميّز لوحاته الأولى.
في العام 1993 بيعت هذه اللوحة بمبلغ 57 مليون دولار أمريكي. وقد أعارها المليونير الأمريكي الذي اشتراها إلى متحف الميتروبوليتان حيث ظلّت فيه إلى اليوم.
بعد حوالي سنة من رسمه هذه اللوحة، أي في السابع والعشرين من يوليو 1890، أقدم فان غوخ على الانتحار بإطلاق رصاصة على صدره في أحد هذه الحقول التي ألهمته رسم أعظم لوحاته وأكثرها شعبية وذلك خلال فترة السنتين اللتين قضاهما في آرل.
وبعد وفاته سرعان ما بدأت لوحاته تجتذب اهتمام النقاد الذين اكتشفوا أصالة وعمق موهبته ورؤيته الفنية، ليحتلّ في ما بعد مكانته كأحد أشهر الرسّامين الطليعيين في تاريخ الفن الحديث.



أحـــلام الغــــد للفنان الفلسطيني إسماعيـل شمّـوط

عندما يتعامل الفنان مع حدث ضخم أو قضية مصيرية، فلا بدّ وأن ينتج عملا ملحميا مثل هذه اللوحة التي يمكن اعتبارها بحقّ سجلا بصريا مكثّفا يختصر تاريخ فلسطين المعاصر ويجسّد نضال شعبها من اجل التحرّر والخلاص والانعتاق.
الفنان الراحل إسماعيل شمّوط يعتبره النقاد المؤسّس الفعلي لحركة الفن التشكيلي الفلسطيني. ولا يمكن قراءة لوحات هذا الفنان دون ربطها بالقضيّة التي كانت دوما الدافع والمحرّض لهذا الإبداع الذي يطبع كافة أعماله.
وكل من يتأمّل لوحات اسماعيل شموط لا بدّ وأن يتخيّل انه يقرأ سفرا ضخما يعكس قدرة صاحبه الفائقة على السرد الدرامي والتصوير التعبيري الذي لا ينقصه الصدق ولا الإحساس القويّ والنافذ. وفي كل لوحاته نلمس حنينا جارفا إلى الوطن وتطلّعا وتوقا لا يني ولا يتوقّف إلى الأيام الخوالي والزمن الجميل.
في هذه اللوحة يربط الفنان بطريقة بارعة بين مكوّنات وعناصر القضية الفلسطينية المادية والمعنوية في آن. فهو يحرص على توثيق عناصر الأرض والشعب والطيور والأزهار لتعبّر عن مفاهيم الحرية والأمل ولتأكيد حقّ العودة والحياة الكريمة لشعب شرّد من أرضه وقاسى مرارة النفي القسري عن وطنه ووطن أجداده.
رسم الفنان الجزء الأساسي من اللوحة والذي يمتدّ على مساحة كبيرة منها على هيئة فتاة مستلقية يشكّل جسدها خريطة فلسطين كاملة ليؤكّد البعد التاريخي لهذه البقعة من الأرض وأنه ما يزال يعتريه الأمل والحلم بأن تكون وطنا لكل أبنائها الذين شرّدوا منها وتشتّتوا في المنافي البعيدة.
وعند التركيز على هذا الجزء من اللوحة، نلاحظ أن الفنان قد رسم فتاة بثوب أبيض من التراث الفلسطيني تحتضن أبناءها بيديها، تحمل حمامتي سلام من جانب وتمسك براية المقاومة يلفها العلم الفلسطيني من الجانب الآخر في مشهد عاطفي يحمل رموز القضية التي يوثقها الفنان.
في تفاصيل هذا المشهد يلفت الانتباه دقّة التفاصيل التي أودعها الفنان في اللوحة، فنلاحظ أنه رسم قبّة الصخرة باللون الأحمر في الجزء العلوي المطرّز فوق صدر الفتاة وحول عنقها وقد كتب فيها كلمات "الحب ، الخير، الصبر، العدل" في إشارة واضحة لموضوع اللوحة، بالإضافة إلى إدراجه لعدد كبير من مدن وقرى فلسطين.
لقد اختصر الفنان إسماعيل شمّوط وصف هذه اللوحة الجدارية بقوله: "للأحلام دوما تلك المساحة الرحبة اللا محدودة. وما من أحد يستطيع أن يمنع الحلم. قالوا: أنا أفكر إذن أنا موجود. أقول: أنا موجود إذن أنا أحلم. وهل يكون للحياة معنى إن خلت من الأحلام؟! إن الحلم حرّ كالحرّية. ونحن نعرف حُلمنا. نعم نعرفه لكننا لا نزال نحلم به. نعرفه وطناً مقدّساً كالحقّ المقدّس. نعرفه عميقا في الشعر والموسيقى واللون. لكنه رائع أكثر بشعبه وبأرضه. كلّ شعبه وكلّ أرضه".
إن كل من يتأمّل تفاصيل هذه اللوحة البديعة لا يمكن إلا أن تتردّد في أذنيه وفي وجدانه بطريقة لا إرادية، ومن مكان ما في خلفية المشهد، تلك الأغاني والأناشيد الحماسية التي تتحدّث عن الارتباط بالأرض ومقاومة الغاصب المحتل.
وليس بالمستغرب أن تحتلّ الألوان البيضاء والحمراء والخضراء كامل بناء اللوحة تقريبا. وكل هذه الألوان تبدو ساطعة، قويّة، مدهشة ومثيرة للمشاعر برموزها ودلالاتها المتفرّدة والعميقة.
إن اسماعيل شمّوط لا يسجّل في لوحاته نكبة الشعب الفلسطيني ومسيرة نضاله الطويلة فحسب، بل يحاول من خلالها تعزيز الشعور بالعزّة والكرامة والانتماء للوطن وإشعال جذوة الأمل في نفوس شعب يواجه القمع والتهجير والتصفية كل يوم.
وفي لوحاته تتكرّر مشاهد الحمام والرمّان والثياب المطرّزة التي تعتبر رموزا تقليدية لفلسطين منذ القدم.
كان الفنان إسماعيل شمّوط متزوّجا من الفنانة تمام الأكحل، وقد تلقّى دراسته في مصر وايطاليا وأقام معارض لأعماله في عدد من عواصم العالم ونال العديد من الجوائز العالمية تكريما له على إبداعه والتزامه العالي بقضايا الحرّية والكرامة الإنسانية.


الكــابـــوس للفنان السويسري جون هنـري فوزيـلي



قد تكون هذه اللوحة مألوفة للبعض. فقد ظهرت في الكثير من أفلام ومسلسلات الرعب والدراما البوليسية، كما ظهرت على غلاف رواية ميري شيلي الشهيرة فرانكنشتاين . بالإضافة إلى ظهورها المتكرّر على غلاف أكثر من كتاب علمي يتحّدث عن الكوابيس والأحلام المزعجة.
وقد اعتبرت اللوحة في حينها عملا تشكيليا مبتكرا، لأنها تتحدّث عن طبيعة الأحلام وعالم اللا وعي، وهي فكرة لم يكن احد من الرسّامين قد تطرّق لها من قبل.
في اللوحة نرى امرأة ترتدي ملابس بيضاء وتنام على سرير في غرفة ذات ستائر حمراء داكنة.
طريقة اضطجاع المرأة ووضعية رأسها ويديها تدلّ على أنها تمرّ بحالة نوم غير مريحة تبدو معها بلا حول ولا قوّة.
لكننا لا نحتاج لمعرفة السبب، ففوق صدر المرأة مباشرة يجثم كائن قبيح المنظر جامد النظرات أشبه ما يكون بالغول.
وإلى يسار الغرفة نرى مخلوقا آخر اسود اللون غريب الهيئة أشبه ما يكون بالحصان وقد راح يرمق المرأة بعينين تلمعان في الظلمة.
ورغم بشاعة ملامح الوحش إلى اليمين وهيئته الغريبة، فإنه لا يبدو في وضع من يحاول إيذاء المرأة أو المساس بها. بل انه اقرب ما يكون إلى حال التفكير والتأمّل.
صورة الوحشين الظاهرين في اللوحة قد يكون الرسّام استوحاهما من الكتب القديمة التي تورد قصصا عن مخلوقات بهيئات نصف بشرية.
ولكي نفهم جوّ اللوحة ومضمونها بشكل أفضل، لا بدّ أوّلا من الحديث قليلا عن جون فوزيلي وعن ملامح وسمات العصر الذي عاش فيه.
ولد هذا الفنان في سويسرا لكنه قضى معظم حياته في بريطانيا التي عمل فيها رسّاما وشاعرا وناقدا.
في تلك الأيام كانت الحضارة القوطية تعيش ذروة ازدهارها. ومعلوم أن الأفكار والقيم التي اتسمت بها الحقبة القوطية نتجت كردّ فعل على الاتجاه العقلاني الذي جاء به وكرّسه عصر التنوير الأوربي والكلاسيكية الجديدة.
كانت الثيمات الرائجة في الأدب والفن القوطي، أي ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تتمثل في الموضوعات الفانتازية وعلم الغيب وظواهر ما فوق الطبيعة.
وقد شاعت في ذلك الوقت قصص كثيرة تتحدّث عن الموتى الذين يرفضون أن يرتاحوا في قبورهم، وعن الجنّيات اللاتي يغرّرن بالبشر، والوحوش التي تتخّذ صورة مسوخ بشرية مثل فرانكنشتاين وغيره.
كما راجت في تلك الحقبة حكايات متواترة عن كائنات شرّيرة تخرج في آخر الليل لتغتصب النساء وهن نائمات.
ويظهر أن فوزيلي استمدّ من الفولكلور والطبّ والمخيال الشعبي السائد آنذاك عناصر وظّفها في رسم هذه اللوحة المشحونة بالرعب والترقّب.
ورغم الشعور بالخوف الذي يثيره جوّ اللوحة، فإن لباس المرأة المستفز نوعا ما، وطريقة اضطجاعها، ربّما يوحيان بمزيج من الإحساس بالألم والإغواء والمتعة الحسية.
وهناك من يقول بأن المرأة في اللوحة ليست سوى عشيقة الفنان التي كان قد وقع في حبّها عندما كان يعيش في زيوريخ.
لكن المهم أن لوحة "الكابوس" حققت نجاحا باهرا منذ أن عرضت لأوّل مرّة في العام 1982م.
بل لقد بلغ من شعبيّتها أن فوزيلي اضطرّ إلى رسم عدّة نسخ منها بناءً على طلب بعض زبائنه.
والمعروف أن العالم الشهير سيغموند فرويد، رائد مدرسة التحليل النفسي، كان يعلق هذه اللوحة في عيادته بفييّنا جنبا إلى جنب مع لوحة رمبراندت "درس في التشريح".
وقد ظلت لوحة فوزيلي مثارا للعديد من التفسيرات والقراءات المتباينة من قبل علماء النفس الذين رأوا فيها موضوعا خصبا لتنظيراتهم واجتهاداتهم.
بعضهم رأى فيها تجسيدا لرغبة لم يتم إشباعها، بينما رأى فيها البعض الآخر مظهرا من مظاهر الغيرة التي يتحوّل فيها عشيق المرأة إلى وحش مترصّد تحت ثقل شعوره بالحقد والميل للانتقام.
وهناك من نقاد الفنّ من يرجّح بأن اللوحة ألهمت سيلفادور دالي رسم لوحته بعنوان "امرأة نائمة وحصان وأسد".
وبوحي من هذه اللوحة أيضا كتب الشاعر ايراسموس داروين قصيدته "الحديقة النباتية".
في ما بعد، أصبحت الكوابيس والأحلام المزعجة موضوعا مفضّلا في العديد من الأعمال السينمائية والدرامية والأدبية.
وغالبا ما لا تتغيّر العناصر الموظّفة من اجل إنتاج مشهد يحبس الأنفاس ويزرع الرعب والهلع في قلب المتلقي. فهناك دائما رجل أو امرأة مستلقية بعينين نصف مفتوحتين. وعبر النافذة المواربة يلوح من بعيد منظر غيمة تمرّ متثاقلة أمام قمر شاحب. وعندما يبدأ الكابوس يظهر في المشهد آلة موسيقية "بيانو غالبا" ويد سوداء تحاول فتح الباب وحيوان ميّت وجنس وموسيقى وموت، إلى آخره..
ترك جون هنري فوزيلي عند وفاته حوالي ستّين لوحة أشهرها الكابوس، والساحرات الثلاث وحلم الراعي.
ومواضيع لوحاته تشبه كثيرا مواضيع لوحات معاصره الفنان والشاعر وليام بليك، حيث الفانتازيا والرعب والجنس والسحر هي العناصر المهيمنة.
وقد كان فوزيلي منجذبا كثيرا إلى شكسبير وجون ميلتون صاحب الرواية المشهورة الفردوس المفقود . وأعمال هذين الاثنين تضجّ هي الأخرى بقصص الشياطين والملائكة والبيوت المسكونة والقلاع المظلمة والسحرة والمجانين والأشباح والعنف والجريمة.


فيـوليــن انـغـــر للفنّان الأمريكـي مــــان راي


ثمّة من النقّاد من يقول إن هذه اللوحة تمثّل أشهر صورة فوتوغرافية، تمّت معالجتها وتحويرها، خلال القرن العشرين.
وقد اعتبرت في حينها عملا فنيّا حداثيا وثوريا.
أنجز مان راي، واسمه الأصلي ايمانويل رادنيتزكي، هذه الصورة في الفترة ما بين الحربين العالميتين. وهي الفترة التي شهدت ذروة ازدهار فنّ التصوير الفوتوغرافي.
كان راي مصوّرا ورسّاما ومخرجا سينمائيا. ويقال انه أكثر المصوّرين الفوتوغرافيين تأثيرا ونفوذا خلال القرن الماضي. وقد ُعرف بابتكاراته التقنية وميله إلى اكتشاف كلّ ما هو غير مألوف أو متوقّع. كما ينسب إليه الفضل في كونه احد الفنانين الطليعيين الذين عملوا على تطوير التصوير الضوئي وجعله شكلا من أشكال الفن.
وكان راي معجبا كثيرا بأعمال الرسّام الفرنسي انغر الذي اشتهر برسمه المحظيّات والنساء العاريات. وكان انغر معروفا في الوقت نفسه بإجادته العزف على آلة الفيولين أو الكمان.
وقد ألهمت إحدى أشهر لوحات الفنان الفرنسي المسمّاة Bather of Valpincon ، ألهمت راي إنجاز هذه اللوحة التي تعدّ أشهر أعماله وأكثرها رواجا والتي يمزج فيها بين التصوير والرسم.
والموديل في الصورة هي امرأة تدعى "كيكي" كانت عارضة أزياء ومغنّية مشهورة، كما كانت احد رموز الحياة البوهيمية في باريس خلال الربع الأول من القرن العشرين.
من الواضح أن فكرة الصورة، التي نفّذت بالأسود والأبيض، تعزف على الشبه بين جسد المرأة وآلة الكمان.
ولهذه الغاية عمد المصوّر إلى إخفاء ذراعي الموديل أمامها ثم رسم على جانبي ظهرها من الوسط حرف f اللاتيني الذي يظهر عادة محفورا على طرفي الكمان، لكي يبدو ظهر المرأة أكثر مضاهاة لشكل الآلة الموسيقية.
أي أن الفنّان أجرى تحويرا بسيطا على ما كان في الأصل صورة كلاسيكية عادية لامرأة عارية الظهر.
المرأة تبدو في الصورة وهي ترتدي غطاء رأس وقرطا، ورغم ذلك فإنها عارية إلا من وشاح منسدل وملفوف حول وسطها ومؤخّرتها.
كانت هذه الصورة، على بساطتها، ملهمة لأجيال عديدة من الفنانين الذين رسموا جسد المرأة على شكل آلة موسيقية وترية، ثم توسّع خيال بعضهم بعد ذلك ليرسموه على شكل ثمار وفاكهة.
قد يكون مان راي أراد من وراء إخراج هذه الصورة أن يسخر من التقاليد التي كانت شائعة في زمانه. وربّما أراد القول إن فنّ التصوير الفوتوغرافي بمقدوره هو أيضا أن يخلق واقعه الخاص، وأن الجسد يتفاعل مع اللمس بمثل ما أن الأصابع المدرّبة والخبيرة تستطيع أن تبثّ الحيوية في الآلة الموسيقية لتجود بأجمل النغمات وأعذبها.
ولد مان راي بفيلادلفيا في الولايات المتحدة لأبوين يهوديين، لكنه عاش معظم حياته في باريس التي لمع فيها اسمه كأحد الأعضاء البارزين في الحركة السوريالية.
وقد اشتهر بتصوير كبار رموز ذلك العصر أمثال مارسيل بروست وماكس ارنست وجيمس جويس وبول ايلوار بالإضافة إلى الممثلة الأميركية ايفا غاردنر.
ولـ مان راي صورة أخرى لا تقلّ ذيوعا وانتشارا اسمها دموع Tears، كثيرا ما تظهر في كتب الشعر والروايات العاطفية.
"فيولين انغر" كانت عملا ثوريا ورائدا في وقتها، وذلك بفضل تطويع أساليب التلاعب بالصورة واستخدام المونتاج بشكل مبتكر.
لكنْ وعلى نطاق أوسع قليلا، وعلى مستوى الصورة بشكلها الكلاسيكي المجرّد، لا بدّ من الإشارة إلى صور فوتوغرافية أخرى ذاعت شهرتها كثيرا خلال القرن العشرين. ومن أشهرها صورة المناضل البوليفي تشي غيفارا ، وصورة نيل ارمسترونغ وهو يخطو على سطح القمر، وصورة الفتاة الأفغانية شربات غولا ، وصور مذبحة ماي لاي الفييتنامية، وصورة لسان اينشتاين ، وصور مقتل الطفل الفلسطيني محمّد الدرّة ، وأخيرا وليس آخرا صورة الصحافي كيفين كارتر عن ضحايا المجاعة في جنوب السودان.


الفضـائـل الثــلاث للفنانة الفرنسيـة إلـسـي راســـل

في الأساطير اليونانية القديمة، كانت الفضائل الثلاث، أغايا ويوفروزين وثاليا، بناتا للإله زيوس وابنة البحر اورينوم. وكنّ يرمزن، على التوالي، إلى السعادة والفضيلة والجمال.
كان حضورهن معا في الحفلات والمآدب وغيرها من المناسبات أمرا ضروريا، إذ كنّ يدخلن السعادة والسرور على قلوب ضيوف أبيهن كبير الآلهة بما أوتينه من مهارة في الرقص والغناء وسرد الحكايات الطريفة والقصص المشوّقة.
بالنسبة للفنّانين المغرمين برسم موضوعات تاريخية، كانت "الفضائل الثلاث" من المواضيع الجذّابة والمفضّلة. وُيذكر أن أوّل من أتى على ذكرهن كان الفيلسوف الإغريقي كريسيبوس الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد.
هذه اللوحة الجميلة تقدّم صورة نموذجية عن رؤية الفن والأدب لهذه الأسطورة. إذ نرى فيها ثلاث فتيات شبه عاريات وهنّ يؤدّين رقصة طقوسية في ما يشبه الدائرة.
التوليف في اللوحة يتّسم بديناميكية ملحوظة، وانثناء الأجساد وتأرجح الأقدام والأيدي واتّساق حركتها يخلق إيقاعا لا يخلو من تناغم وموسيقيّة.
مما يلفت الانتباه أيضا في اللوحة الطبيعة الأثيرية والحالمة التي اختارتها الفنانة كخلفية للمشهد، وفيها إحساس قويّ بالأزلية والخلود.
هناك أيضا منظر الفتاة التي في الوسط، إذ توحي الطريقة التي ُرسم بها قوامها أننا إزاء رجل لا امرأة. ثم هناك الكرة التي تمسك بها الفتيات الثلاث والتي قد تكون رمزا للكون، أو ربّما إلى التجربة الإنسانية التي تتوحّد مع العالم الأكثر رحابة؛ مع الروح المبدعة التي تدلّ على الإله الواحد الأكبر.
تذكر الأساطير أن الفضائل الثلاث ُعهد إليهن بالاهتمام بآلهتي الحب ايروس وأفرودايت.
وكثيرا ما كنّ يغنّين للآلهة على قمّة جبل الأوليمب. وكنّ أيضا يلعبن دور الملهمات. إذ بفضل تشجيعهن ورعايتهن للفنون والأدب، أنجز الشعراء والفنّانون أجمل أعمالهم الإبداعية على الإطلاق.
المشهد الذي تنقله اللوحة لا يخلو من مسحة حسّية. ومن الواضح أن النزعة الهيلينستية حوّلت ما كان يوما مجرّد ثلاث شقيقات خجولات يرتدين ملابس محتشمة وبسيطة ويرمزن لكل ما هو نقي وبريء إلى عرض ايروتيكي.
وعبر العصور المتعاقبة، كثيرا ما استخدم الرسّامون الأسطورة كذريعة لرسم نساء عاريات أو لتصوير جمال الشكل الأنثوي.
غير أن الجاذبية الطاغية التي تمتّعت بها أسطورة الفضائل الثلاث في الفنّ والأدب كانت دائما مدعاة للتساؤل والاستغراب. ذلك أن دورهن في الأساطير الإغريقية لم يكن بتلك الأهمّية الكبيرة.
لكنّهن في ما بعد أصبحن يرمزن، مجتمعات، لنواة العائلة "الذكر والأنثى والطفل"، ولمرحلية الأشياء "البداية والوسط والنهاية"، ولدورة الكائنات "الميلاد والحياة والموت".
الفنانة إلسي راسل ولدت ونشأت في باريس لأب أمريكي وأم فرنسية ودرست الرسم في روما ونيويورك وباريس. وقد ساعد على بروز موهبتها حقيقة أن والدها كان رسّاما تعبيريا معروفا.
وُيذكر أنها التقت في صغرها بسيلفادور دالي الذي كان صديقا للعائلة. وقد شجّعها وأثنى على موهبتها.
وأخيرا، من بين أشهر الفنانين الذين مثلوا الفضائل الثلاث في أعمال تشكيلية ونحتية كل من روبنز وانتونيو كانوفا وبوتيشيللي ورافائيل.


لاسكــابيـليـاتــا أو رأس أنثــى للفنان الإيطــالي ليــونــاردو دافـنـشـي

رسم دافنشي هذه اللوحة بعد عشرين عاما من إتمامه "العشاء الأخير".
وفيها نرى مثالا آخر للكيفية التي كان ليوناردو ينظر بها إلى جمال الأنثى. وهو هنا يحاول إبراز جمال الروح والنفس والتقاط الحالة الداخلية؛ الإنسانية والروحية التي تميّز الشخصية.
المرأة في اللوحة غير معروفة، لكن هناك من النقّاد من يرجّح أن تكون إحدى "المادونات" الكثيرة التي رسمها دافنشي في أكثر من لوحة.
ومما يجذب الانتباه في تفاصيل هذا العمل إجادة الرسّام تمثيل شعر المرأة الذي يبدو غير مرتّب، والنظرة المفكّرة والمتأمّلة التي تعمّقها وضعية الرأس المحني إلى أسفل.
ثم هناك تقاطيع الوجه التي تشي بنوع من الجمال النبيل المفعم بقدر غير قليل من البساطة والرّقة.
هذا البورتريه لا يختلف كثيرا عن بقيّة أعمال دافنشي التي رسم فيها نساءً. فالملامح الفيزيائية تكاد تكون واحدة تقريبا وهي سمة تختصر مفهوم الفنان الخاص عن الجمال الأنثوي خلال عصر النهضة الايطالي. فالأنف دقيق وحادّ والشفاه رقيقة والجبين عريض وناتئ قليلا، بالإضافة طبعا إلى المسحة التأمّلية الهادئة والبسمة الخفيفة والغامضة.
في العديد من بورتريهات ليوناردو نلمس حضورا قويا للنساء، وقد كانت له فلسفته الخاصّة عن المرأة إذ كان يرى أنها كائن عاقل وأنها من الناحية البيولوجية والفكرية مكافئة للرجل. وكانت أفكاره تلك تشكّل تحدّيا لأعراف المجتمع الأبوي آنذاك الذي لم يكن يعترف بأيّ دور للنساء في السياسة أو المجتمع.
"لاسكابيلياتا" دافنشي كانت وما تزال تثير اهتمام الكثير من النقاد ومؤرخي الفن.
وبعضهم يرجّح أن يكون دافنشي رسمها كي يعكس من خلالها تأمّلاته حول تجاربه عندما كان شابا.
كما أن الطابع التأمّلي العميق في اللوحة دفع نقّادا آخرين للقول إنها أكثر أعمال الفنان تسامياً ونبلا. بل إن البعض يذهب إلى القول إنها أكثر سموّاً حتى من الموناليزا. وقد رسمها ليوناردو بطريقة احترافية بارعة تؤهلها لان تعمّر طويلا متحدّية كلّ عوامل النسيان والتقادم.
الجدير بالذكر أن هذه اللوحة اكتسبت شعبية جماهيرية إضافية عام 1998 عندما وظّفت في الفيلم السينمائي المشهور Ever After الذي تظهر فيه بطلة الفيلم درو باريمور في بورتريه تتّخذ فيه شكل ووضعية المرأة في بورتريه دافنشي.



بـورتـريـه مــوزارت للفنانة باربـرا كـرافــت

أصبح هذا البورتريه منذ إتمامه قبل حوالي مائتي عام أشهر لوحة تصوّر وولفغانغ اماديوس موزارت، احد أشهر المؤلفين الموسيقيين الكلاسيكيين وأكثرهم إنتاجا وتميّزا.
ورغم أن البورتريه رُسم بعد وفاة الموسيقي المشهور بحوالي 18 عاما، فإنه - بشهادة من عرفوا موزارت عن قرب - ينقل ملامحه بشكل دقيق جدّا.
وعلى مرّ سنين طويلة، ظهرت هذه الصورة على أغلفة عشرات الكتب التي تتحدّث عن حياة موزارت وموسيقاه وأشهرها كتاب آرثر هتشينغز: "موزارت الرجل والموسيقيّ". كما ظهرت على أغلفة عدد كبير جدّا من الكاسيتات والأقراص المدمجة التي تتضمّن أعمال موزارت الموسيقية.
الغريب أن رواج هذا البورتريه وشهرته الواسعة جاء على حساب الفنانة التي رسمته، إذ لا احد يعرف اليوم شيئا عن باربرا كرافت ولا عن حياتها أو أعمالها الأخرى. غير أن اسمها ربّما يوحي بأنها ألمانية أو نمساوية.
في البورتريه نرى موزارت بوجه شاحب وقوام هزيل وعينين واسعتين زرقاوين ومتوهّجتين. وهو هنا يبدو بمزاج مرتاح نسبيا وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة يخالطها مسحة حزن..
في اللوحة أيضا يرتدي موزارت باروكة بظفيرتين ضخمتين على جانبي الرأس من الطراز الذي كان يستخدمه الموسيقيون في الحفلات الرسمية، بالإضافة إلى جاكيت بلون أحمر طرّزت حوافّه بالذهب.
ويقال إن موزارت كان شديد الشبه بوالدته، خاصّة فمه وعينيه وانفه التي تبدو ناتئة قليلا في منتصفها. وثمّة من يقول إن شقيقة الفنان هي التي أعطت باربرا كرافت أوصافه. كما اعتمدت الرسّامة على صورة قديمة لموزارت يظهر فيها جالسا إلى البيانو برفقة والده وأخته.
النقاد اعتبروا هذا البورتريه دائما عملا تشكيليا خاصّا ومتميّزا يبدو فيه الموسيقي بهيئة رسمية ونظرات متأمّلة تنم عن ذكاء صاحبه وعبقريته.
موزارت يعتبر اليوم احد أكثر رموز الموسيقى الكلاسيكية شعبية وانتشارا. ومن دلائل عبقريته المبكّرة انه كتب أولى سيمفونياته وهو في سنّ الثامنة. ورغم انه توفي وعمره لا يتجاوز الخامسة والثلاثين فقد ترك أكثر من 600 قطعة موسيقية ما بين كونشيرتو وسيمفونية وأوبرا وسوناتا.. إلى آخره.
وبعد وفاته راجت نظريات كثيرة ومتناقضة تفسّر حادث موته المفاجئ والغامض. ومؤخّرا توصّل فريق من الأطباء والمؤرّخين إلى استنتاج مؤدّاه أن موزارت مات جرّاء إصابته بالحمّى الروماتيزمية "وهو مرض يعالج اليوم بالقليل من المضادّات الحيوية". كما استنتجوا أن لا صحّة لنظريات المؤامرة التي تحدّثت عن مقتل موزارت بالسم على يد منافسه الموسيقار الايطالي انتونيو سالييري.
وفي وقت سابق من هذه السنة تواترت أنباء عن العثور على لوحة نادرة أخرى لموزارت قيل إنها رّسمت له في سنّ السابعة والعشرين، أي عندما كان في ذروة صعوده وشهرته.
وقد ظلت اللوحة الأخيرة في عهدة أجيال من عائلة احد أصدقاء والد موزارت الذي كان احد كبار ملاك الأراضي في سالزبورغ إلى أن ابتاعها في شهر مارس الماضي مليونير أمريكي لم يُكشف النقاب عن اسمه ولا عن الثمن الذي دفعه مقابل اللوحة.
في ثمانينات القرن الماضي، ساد العالم ما يشبه حالة الهوس بموزارت والشغف بموسيقاه في أعقاب ظهور فيلم اماديوس للمخرج التشيكي ميلوش فورمان. وفي عام 1991 تكرّست صورة موزارت، أكثر، باعتباره ظاهرة ثقافية عالمية مع احتفال العالم بمرور مائتي عام على مولده.
توفي موزارت في فيينا يوم الخامس من ديسمبر عام 1791 بينما كان ما يزال يعكف على كتابة نشيده الجنائزي. ويقال انه مات فقيرا ومنسيا ولم يسِرْ في جنازته سوى عدد قليل من الناس قبل أن يوارى الثرى في قبر ما يزال إلى اليوم مجهولا.