بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 19 يونيو 2010

الأميرة فالانتينا تبكي موت زوجها دوق اورليون للفنان الفرنسي فرانسـوا فلوريه ريشـار

يقال أحيانا أن الأعمال الفنية التي تتناول حالة إنسانية أو تتضمّن عنصرا له علاقة بالتاريخ أو الهويّة الوطنية هي التي يُكتب لها البقاء أكثر من غيرها.
وهذه اللوحة تشتمل علىّ كل هذه العناصر الثلاثة معا.
فهي من ناحية تصوّر حالة إنسانية خاصّة. كما أن لموضوعها علاقة بحدث سياسي وتاريخيّ مهمّ.
الأمر الآخر هو أن اللوحة نفسها جميلة وتروق للعين برغم موضوعها الحزين. كما أنها رُسمت بطريقة تنمّ عن براعة الرسّام ومهارته الفنّية العالية.
واللوحة تصور الأميرة فالانتينا فيسكونتي وهي تبكي زوجها دوق اورليون الذي قُتل على يد ابن عمه دوق بيرغندي في ذروة صراع الرجلين على السلطة في فرنسا مطلع القرن الخامس عشر.
في تلك الفترة كانت فرنسا تعيش أجواء اضطراب وتوتّر سياسي خطير نتيجة الصراع الطاحن على السلطة. فالملك شارل السادس مريض وعلى حافة الجنون نتيجة إصابته بالشيزوفرينيا. والقصر يعجّ بأخبار المؤامرات والدسائس والشائعات بين الخصمين الرئيسيين الطامحين في ملء الفراغ الذي تركه غياب الملك.
غير أن اخطر تلك الشائعات هو ما قيل عن وجود علاقة غرامية بين الملكة وزوج فالانتينا الذي هو بنفس الوقت شقيق الملك. وأيضا ما أشيع عن وجود علاقة غامضة بين فالانتينا نفسها والملك المريض.
وقد جلبت هذه الأخبار غضب الملكة فامتلأ قلبها غيظا وحنقا على الأميرة، وبلغ حقدها ذروته عندما أمرت بطردها نهائيا من القصر ونفيها عن باريس.
هذه اللوحة تكشف عن حالة من حالات الضعف الإنساني وتصوّر الحزن بأجلى صورة. لكنها أيضا تعكس معاني الوفاء والإخلاص والعاطفة الصادقة والقويّة.
وقد اختار الرسّام أن يستحضر في هذا العمل بعض العناصر التي تذكّر بالعصور الوسطى مثل الديكور المستوحى من العمارة القوطية والنافذة ذات الزجاج المعشّق والأنيق. ونفس هذه النوعية من الزجاج تظهر أيضا في الجزء الذي يعلو الستارة حيث النوافذ الثلاث الدائرية الشكل والتي يظهر في الوسطى منها رسم لأفعى خضراء، في إشارة إلى شعار عائلة فيسكونتي الايطالية التي تنتسب إليها المرأة.
كانت نار العداوة على أشدّها بين زوج الأميرة وخصمه الطامع، هو الآخر، في الحكم. وأجّجت الملكة وأنصارها الصراع بين الرجلين بإصدارها مرسوما تعهد فيه إلى دوق بيرغندي بولاية العهد وبتعيينه وصيّا على أبناء الملك العاجز والموشك على الجنون.
غير أن غريمه، أي زوج فالانتينا، لم يستسلم للأمر بل سعى إلى تخريب مهمّة خصمه ونقل النزاع إلى الشارع.
وخوفا من نشوب حرب أهلية، تدخل عمّهما لفضّ الخلاف بينهما وانصاعا أخيرا لمشيئته بموافقتهما على وثيقة الصلح التي اقترحها.
لكن بعد الاتفاق ببضعة أيام، اغتيل دوق اورليون، أي زوج فالانتينا، على أيدي أشخاص مجهولين فاجئوه في احد شوارع باريس وهو يهمّ بامتطاء حصانه فقاموا ببتر ذراعيه بالسيوف لشلّ حركته ثم تركوه ينزف حتى الموت. وتبيّن بعد ذلك أن خصمه اللدود ومنافسه على الحكم هو من دبّر ذلك الهجوم كي يخلو له الجوّ وينعم لوحده بمنصب لا ينافسه فيه منافس.
وقد فجّرت عملية الاغتيال تلك حربا أهلية مدمّرة دامت سبعين عاما وأدّت إلى تقسيم فرنسا إلى معسكرين.
فرانسوا ريشار رسم هذه اللوحة بعد مضيّ أربعمائة عام على تلك الأحداث.
وقد واتته فكرتها عندما رأى ضريح فالانتينا ذات يوم في احد مقابر باريس. وأدهشه بشكل خاصّ العبارة المنقوشة على شاهد القبر والتي تقول: لم يبقَ لي شيء. وأنا نفسي لا شيء!"
كان الرسّام يدرك جيّدا مغزى تلك العبارة المنسوبة للمرأة والتي تعكس يأسها وحزنها الدفين على فقد زوجها وأسفها على الماضي الذي ضاع وانقضى.
كانت فالانتينا ابنة لدوق ميلانو الذي كانت عائلته تمتّ بصلة قربى ونسََب للعائلة الملكية الفرنسية. وقد عاشت مع زوجها الدوق ثمانية عشر عاما كانت خلالها مثالا للزوجة المحبّة والوفيّة. وعندما مات، كان حزنها عليه عظيما وظلّت تبكيه عاما كاملا إلى أن توفّيت وهي لا تتجاوز الثامنة والثلاثين من عمرها.
ليس في هذه اللوحة شيء سوى الحزن والشعور العميق بالفقد والخسارة. حتى الكلب الواقف إلى جوار المرأة توحي هيئته بأنه هو أيضا يشارك سيّدته في حزنها ويشاطرها مصيبتها.
لم يكن فرانسوا ريشار رسّاما فقط، بل مارس الكتابة الأدبية والنقد. وعمل أستاذا في معهد الفنون الجميلة. كما عُرف عنه اهتمامه باكتشاف الطبيعة والآثار. ويصنّف على أنه رائد ما سُمّي بأسلوب التروبادور في الرسم، وهو مصطلح مستمدّ من ظاهرة الشعراء المتجوّلين الذين راجت أشعارهم في العصور الوسطى.
وأتباع هذه المدرسة من الرسم كانوا يُعنون برسم "قصائد مصوّرة" يستلهمون مواضيعها من صور الماضي الغابر ومن الأحداث التاريخية والشواهد الأثرية القديمة.
عندما عرض ريشار هذه اللوحة لأوّل مرّة في صالون باريس، حققت نجاحا كبيرا وقوبلت بالكثير من الثناء والاستحسان. وقد أعجب بها الفنّان جاك لوي دافيد وامتدح مهارة الرسّام في توظيف الألوان الساطعة وفي تمثيل الضوء والظلّ.
كان فرانسوا ريشار الرسّام المفضل للإمبراطورة جوزيفين. وقد اشترت منه هذه اللوحة بعد ثلاث سنوات من إتمامها. ثم انتقلت اللوحة بعد ذلك إلى ملكية عدد من أفراد العائلات الملكية الأوربية. وفي بدايات القرن الماضي ابتاعها متحف بوشكين الروسي وظلّت فيه لسنوات قبل أن تستقرّ أخيرا في متحف الارميتاج في سانت بيترسبيرغ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق