بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 19 يونيو 2010

جـامـع الكُـتُـب للفنّان الإيطالي جوزيـبي أرشيمبـولــدو

كان ارشيمبولدو أحد أكثر رسّامي عصر النهضة أصالة وابتكارا. بل يقال انه أوّل من ابتدع الرسم التكعيبي. حدث هذا قبل أكثر من ثلاثة قرون من ظهور بيكاسو والحركة التكعيبية.
وقد أحبّه السورياليون وأعجبوا بصوره الفانتازية وأشكاله الهندسية وبمهارته الفائقة في التوليف. بينما رأى فيه آخرون فنانا رمزيا يمكن اعتبار أعماله امتدادا للأفكار الإنسانية التي راجت في نهايات عصر النهضة الايطالي.
اشتهر ارشيمبولدو ببورتريهاته عن الفصول الأربعة التي صوّر كلا منها على هيئة إنسان تتشكّل ملامحه من الفواكه والخضار التي تقترن بكلّ فصل من فصول السنة.
غير أن أشهر لوحاته وأكثرها شعبية هو هذا البورتريه الذي رسمه لمؤرّخ وطبيب نمساوي اسمه وولفغانغ لاتزيوس.
كان لاتزيوس عالما مشهورا وقد عُرف بقربه من بلاط عائلة هابسبيرغ. ويقال انه بلغ من حبّ هذا الرجل للكتب انه كان يستطيع الحصول على أيّ كتاب أو وثيقة أو مخطوط يريده بأيّ ثمن وبأيّ طريقة.
وبورتريه ارشيمبولدو عن لاتزيوس هو الوحيد من بين بورتريهاته الذي يخلو من عناصر الطبيعة.
والبورتريه عبارة عن كومة من الكتب رُتّبت بطريقة معيّنة بحيث تؤلّف في النهاية شكل وملامح إنسان. فالقبّعة مرسومة على شكل كتاب مفتوح، والرأس عبارة عن مجموعة من الكتب الموضوعة فوق بعضها أفقيا. والأنف هو الآخر يأخذ هيئة كتاب واللحية رُسمت على شكل مكنسة الريش التي تُستخدم عادة في نفض الغبار عن الكتب. والذراع تحوّل إلى كتاب كبير ابيض والأصابع إلى علامات للكتاب.
رسم ارشيمبولدو البورتريه أثناء عمله كرسّام في بلاط الإمبراطور ماكسيميليان الثاني.
وقد أعجب الإمبراطور كثيرا بهذه الصورة وعلّقها في قصره. ثم استعارها منه ابنه رودولف الذي قام بعرضها، مع غيرها من أعمال الرسّام، في قصرهم في براغ. وفي ما بعد انتقلت اللوحة إلى ملكية أبنائهم وأحفادهم.
وهناك من ينظر إلى اللوحة باعتبارها رسما كاريكاتيريا يسخر من المثقفين وجامعي الكتب الذين يسرفون في شراء واقتناء الكتب، ليس لقراءتها، وإنما من اجل المباهاة والتفاخر.
لكن ربّما كان الرسّام يلمّح من خلال الصورة إلى الازدهار الكبير الذي شهده عصر النهضة في مجال تأليف ونشر الكتب.
في ذلك الوقت أصبح أمناء المكتبات هم التجسيد الحقيقي للحكمة والمعرفة الإنسانية بعد أن كان القدّيسون ورجال الدين يختصّون أنفسهم بصفة العالم المثالي.
كان ارشيمبولدو رسّاما سابقا لعصره. وسلسلة لوحاته ذات الشعبية الكبيرة عن الفصول والعناصر التي يأخذ كلّ منها شكل إنسان من الفواكه والثمار كانت ابتكارا لم يسبقه إليه احد.
وثمّة احتمال بأنه أراد من وراء تلك اللوحات أن تكون رمزا لتوحّد الإنسان مع الطبيعة أو محاولة من الرسّام لأنسنة الطبيعة أو ربّما تطبيع الإنسان.
وهناك لوحة مشهورة أخرى لـ ارشيمبولدو اسمها المحامي، أو الافوكاتو بالايطالية، يظهر فيها شخص بفم سمكة وبوجه تتشكّل ملامحه من اسماك ودواجن ميّتة، بينما تتمدّد على أعلى وأسفل صدره الوثائق والكتب القانونية.
بعض النقاد يشيرون إلى أن ارشيمبولدو قد يكون استلهم أسلوبه المبتكر في الرسم من أشكال الأطعمة التي كانت معروفة في أواخر عصر النهضة. فقد كانت قصور النبلاء تزخر بأنواع الأطعمة والمأكولات والفواكه التي يتمّ ترتيبها، وأحيانا نحتها، كي تحاكي قصص الأساطير القديمة.
ويُحتمل أن تكون لوحاته امتدادا لأحد التقاليد التي سادت في ذلك العصر. إذ كان أرباب المهن يحيطون أنفسهم بأشياء وعناصر تدلّ على طبيعة مهنهم أو حرفهم التي يبرعون فيها.
في العام 1648 تعرّضت الكثير من لوحات ارشيمبولدو للدمار إثر غزو الجيش السويدي لـ براغ. لكن هذه اللوحة نجت من التلف عندما استولى عليها السويديون كغنيمة حرب.
وما تزال موجودة إلى اليوم في المتحف الوطني بـ استوكهولم.


العـاصفــة للفنان الإيطالي جـورجيـونـي

هناك شبه إجماع بين مؤرّخي الفنّ على اعتبار هذه اللوحة الأكثر غموضا والأكثر إثارة للنقاش والجدل في جميع الأوقات.
وقد ألّف عنها العديد من الكتب والدراسات التي حاول بعضها فكّ رموزها الخفيّة. كما تباينت القراءات والتفسيرات الكثيرة التي تناولتها.
اللورد بايرون الذي عُرف عنه ازدراؤه للرسم، كانت هذه لوحته المفضّلة وقد خصّص إحدى قصائده للتغنّي بالجمال الفاتن للمرأة في اللوحة.
وبرغم غموض اللوحة واستعصائها على أيّ تفسير، فإنه يمكن القول إنها عبارة عن رحلة شاعرية في عالم الطبيعة المثالية واستذكار للمناظر الرعوية التي ارتبطت بروما وباليونان القديمة.
تفاصيل اللوحة تشبه الحلم. وأهميّتها الحقيقية تكمن في المزاج الذي تصوّره. ولعلّ هذا يفسّر افتتان الكثير من الشعراء والأدباء والفلاسفة بها.
"العاصفة" تصوّر طبيعة قديمة يجري في وسطها جدول ماء صغير. وعلى حافّة الجدول، إلى اليسار، يقف رجل يرتدي ملابس رسمية ويمسك بيده رمحا طويلا. بينما تجلس على الجهة المقابلة امرأة ترضع طفلا.
الرجل يبدو بهيئة تشبه هيئة الجنود. وقفته بطولية وواثقة، بينما ينظر باتجاه المرأة وطفلها.
المرأة تبدو عارية جزئيا. ملامحها هادئة ونظراتها وقورة. وعلى العكس من الرجل الذي تحجب الظلمة جانبا من وجهه، فإن وجه المرأة واضح المعالم بسبب تأثير الضوء في ذلك الجزء من اللوحة. غير أنها لا تنظر إلى الرجل وإنما إلى المتلقي أو الناظر. وأسفل منها، على طرف الجدول، تظهر أغصان شجرة صغيرة يبدو أن وظيفتها حجب جزء من جسد المرأة.
وفوق، في السماء، تلوح غيوم ثقيلة سوداء ينبثق من خلالها وميض برق، ما يعطي انطباعا بأن الطقس مضطرب وعاصف.
منظر السماء يوحي بالعاصفة المقتربة التي قد تكون نذير شؤم. لكن من الواضح أن الرجل والمرأة لا يعلمان شيئا عن العاصفة الوشيكة أو أنهما لا يباليان بها برغم التوتّر الذي توحي به خيوط البرق التي تلتمع في السماء فوقهما.
الطبيعة في اللوحة تذكّرنا بمناظر دافنشي. الألوان غنيّة ودافئة تعمّق الإحساس بشاعرية وحميمية المنظر.
كثرة الرموز في هذه اللوحة تفتح الباب أمام تفسيرات شتّى.
أحدها يقول إنها تتحدّث عن الثنائيات، الرجل والمرأة، المدينة والقرية، والأرض والسماء. إلى آخره.
البرق، برأي بعض النقاد، هو إشارة إلى قوّة الخالق. والرجل والمرأة هما نسخة عصرية من آدم وحوّاء بعد طردهما من الجنّة. والرضيع قد يكون طفلهما الأوّل قابيل.
وثمّة رأي يقول إن اللوحة يمكن أن تكون معادلا شعريا للعلاقة بين الإنسان والطبيعة. بينما يشير رأي آخر إلى أنها تتضمّن استعارات عن العناصر الأربعة والتناغم والخطيئة والخلاص والتزاوج بين السماء والأرض.
وهناك من قرأ هذا العمل استنادا إلى سياقات أسطورية ودينية متعدّدة.
غير أن احد أكثر التفسيرات إثارة للاهتمام ما نُسب إلى مؤرّخ ايطالي عندما قال إن موضوع اللوحة هو الطبيعة. والمرأة والرجل والطفل هم مجرّد عناصر. لكنهم ليسوا العناصر الأكثر أهمية في الطبيعة".
ورغم غموض اللوحة فإن كلّ شيء فيها واقعي وطبيعي. ويمكن القول إنها نموذجية في كلّ شيء. وهي في أبعادها وتوليفها ونسَبِها قريبة جدّا من الكمال.
وفي بعض الأوقات راجت نظرية تربط بين موضوع اللوحة وأشعار فرجيل. فقد كانت قصائد هذا الشاعر تُقرأ على نطاق واسع في فينيسيا زمن جورجيوني. وتتحدّث إحدى تلك القصائد عن شاعر راعٍ رأى في المنام امرأة عذراء تحمل بطفل. وقد رأى البعض في تلك القصيدة نبوءة وثنية عن مجيء المسيح.
ويقال إن "العاصفة" هي أوّل لوحة عن الطبيعة في تاريخ الرسم الغربي. كما أن اللوحة هي الوحيدة التي يجمع المؤرّخون على أن جورجيوني رسمها بالكامل.
وقد رسمها بناءً على تكليف من احد كبار مثقفي فينيسيا في حينه. ويظهر أن الفنان رسمها بهذه الطريقة كي يختبر ذكاء زبونه وقدرته على حلّ الإلغاز والغموض اللذين أودعهما فيها.
في ما بعد، أتى رسّامون كثر مشوا على خطى جورجيوني واستفادوا من شغفه بالإبهام والغموض ووظفوا ذلك في أعمالهم. ومن أشهر هؤلاء الفرنسي نيكولا بوسان.
جورجيوني صُنّف دائما على انه أكثر الرسّامين غموضا في تاريخ الفنّ. إذ لا يُعرف عنه الشيء الكثير باستثناء انه مات في سنّ مبكّرة وعمره لا يتجاوز الرابعة والثلاثين.
وكان احد روّاد رسم المناظر الطبيعية المستوحاة من الماضي والتي تصوّر الرعاة والقطعان وهي تسرح في الحقول.
ويغلب على لوحاته الطابع الرومانسي. وقد تكرّس هذا الطابع في شخصيّته هو عندما أحبّ امرأة كانت مصابة بالطاعون. ومع ذلك اختار أن يظلّ إلى جانبها وأن يموتا معا في النهاية.
"العاصفة" قد تعني أيّ شيء: نبوءة، حلم يقظة، فانتازيا أو رؤيا داخلية.
وقد لا تعني شيئا على الإطلاق.
لكنها تظلّ "قصيدة" جورجيوني الأشهر برغم غموضها الممتع والمحيّر.


المِــزلاج للفنان الفرنسي جان اونوريه فراغونار

الفنّ الجميل يثير الجدل ويطرح الكثير من الأسئلة ولا يكتفي بإجابات بسيطة أو جاهزة.
وعلى نحو ما، يمكن اعتبار هذه اللوحة تطبيقا للفكرة القائلة إن الفنّ الجيّد يخلق دائما واقعه الخاص.
تنظر إلى هذه اللوحة وتتأمّلها مرارا لتكتشف أن الرسّام يدعوك للدخول في لعبة بصرية مراوغة لا تعرف أين تبدأ ولا كيف تنتهي.
"المزلاج" تعتبر إحدى أشهر اللوحات التي ظهرت في القرن الثامن عشر وهي موجودة اليوم ضمن الجناح الخاص باللوحات الفرنسية في متحف اللوفر.
وقد رسمها فنّان قيل انه، لبراعته، كان يرسم البورتريه في اقلّ من ساعتين. وقد ارتبط اسم فراغونار بالطبقة الملكية والارستقراطية وبالعديد من الرجال والنساء من ذوي الجاه والغنى في عصره.
هذه اللوحة رُسمت بتكليف من احد النبلاء. لكن لم يكن مقدّرا للزبون أن يرى اللوحة في حياته، إذ توفي قبل أن تُنجز.
وفي ما بعد، ظهرت اللوحة على أغلفة بعض الروايات العاطفية كان آخرها رواية فرنسية مشهورة تُرجمت إلى لغات عديدة بعنوان "علاقات خطرة".
المكان الذي تصوّره اللوحة غرفة نوم. وقد قسّم الفنان الغرفة قُطريا إلى جزأين. الجزء الأيمن، أي حيث يقف الرجل والمرأة، وهو مضاء بالكامل. والجزء الأيسر، حيث السرير وملحقاته، يقع في الظلمة.
في الجزء الأيمن نرى رجلا يحتضن امرأة بينما يحاول غلق مزلاج باب الغرفة. المرأة تبدو منهكة ويائسة وهي ترفع نفسها بتثاقل من على السرير.
في الجزء الأيسر من الغرفة تبدو محتويات السرير من وسائد وستائر وفرش وهي على حال من الفوضى وانعدام النظام.
المشهد مليء بالإشارات والاستعارات والرموز التي تفتح على أكثر من احتمال وتدفع بالمتلقي لأن يكوّن تصوّره الخاص حول طبيعة ما يراه أمامه.
لكن يمكن القول إن هناك احتمالين رئيسيين قد يفسّران ما يحدث في اللوحة.
الاحتمال الأول أن اللوحة تحكي عن حادثة اغتصاب أو مقدّمة لعملية اغتصاب. من الواضح أن الشاب يحاول أن يقفل الباب. لكن المرأة تقاومه وتحاول منعه من ذلك. هو يعرف أن نجاحه في إغلاق القفل سيسهّل له مهمّة ارتكاب جريمته. والقفل في هذه الحالة هو رمز لمقاومة المرأة وتمنّعها.
الشابّ يبدو مضطربا والمرأة في حالة قريبة من الانهيار. انفعالاتها وحركاتها تعطي انطباعا بأنها غير راغبة في الإذعان لنوايا الشاب، لذا تدفعه عنها بعيدا.
وضعية وقوف الشابّ تشير إلى أن انتصاره في المعركة يبدو وشيكا وأن استسلام الضحية أمر حتمي. والجدار نفسه يقوم بمهمّة الحاجز الذي يمنع المرأة من الهرب.
الاحتمال الثاني هو أننا أمام صورة مجازية عن الرغبة. طبعا هذا على افتراض أن المرأة راضية ومستسلمة للشاب بإرادتها. وبناءً عليه، يمكن فهم محاولة إقفال الباب على أنها تهدف إلى تأمين حالة من السرّية والخصوصية التي يتطلّبها الموقف.
الرموز في الجزء الأيسر غريبة وموحية. طيّات القماش فوق السرير، النسيج الغامض للقماش، شكل الستائر المجسّمة والكثيفة التي تشبه مصيدة، الوسائد ذات الشكل الغريب، الزهور المرمية على الأرض.. إلى آخره.
هناك أيضا طغيان اللون الأحمر، لون العاطفة والغريزة. والتفّاحة الموضوعة على الطاولة والتي قد تكون رمزا لفاكهة آدم وحوّاء والمرتبطة دائما بالغواية والخطيئة. والسرير نفسه الذي يبدو مثل وحش يكشّر عن أنيابه. والزاوية اليسرى من السرير التي تشبه ركبة إنسان.
الاستخدام الدراماتيكي للضوء في اللوحة يلفت الانتباه. الجانب الأيمن يغمره الضوء الأصفر الفاقع.
الفرشاة في هذه البقعة مشتعلة، مهتزّة ومتوتّرة. والوهج الحارق للأصفر والحرارة المزعجة عنصران إضافيان يعمّقان الإحساس بذروة الصراع أو الالتحام بين الشخصين.
ومع ذلك يظلّ الجزء الأيسر، بما يختزنه من تلميحات ورموز وتهويمات ايروتيكية، هو المهمّ في هذا المشهد لأنه يحكي كلّ شيء وفيه تكمن الرغبات المخبوءة للاثنين.
اللوحة تثير انفعالات متباينة ومعاني متضاربة وتطرح تساؤلات بأكثر ممّا تقدّم إجابات.
هل ما نراه هنا قوس للرغبة أم مسرح لجريمة على وشك أن تتم؟
هل هذه جريمة اغتصاب؟ شروع في القتل؟
هل تنطوي اللوحة على معان شريرة ومظلمة؟ أم أنها مجرّد تصوير لقوّة الحبّ والرغبة؟
هل هذه غرفة الرجل أم المرأة؟
هل يمكن أن يكون الرجل قد احضر الزهور فرفضتها المرأة وصدّته، ما تسبّب في إغضابه وإخراجه عن طوره؟
ثم لماذا إغلاق الباب إذا كانت الغرفة التي تدبّ فيها الفوضى توحي بأن ما حصل قد حصل وانتهى الأمر؟
من حيث الشكل تبدو اللوحة متألقة وجذّابة بألوانها المذابة والدافئة وبالإحساس الناعم الذي يبعثه ملمس الحرير والمخمل الرقيق والمترف.
لوحات فراغونار في معظمها لعوبة، حميمة، مرحة وسهلة الهضم. لذا ليس مستغربا أن يقال انه مات بينما كان يتسلّى بأكل الآيس كريم في احد مشاويره عبر حدائق الشانزيليزيه.
وقدّر له قبل ذلك أن ينجو من مقصلة الثورة الفرنسية، وإن كان دفع ثمن نجاته تلك بتهميشه وكفّ يده عن الرسم.
وقد كانت أعماله تجسيدا لفنّ عصر الروكوكو في فرنسا القرن الثامن عشر. وعُرف عنه براعته في رسم مشاهد الحبّ والمناظر الليلية التي تؤشّر إلى مهارته في تطويع الألوان والتلاعب بنسَب الضوء والظلّ لإضفاء طاقة تعبيرية إضافية على لوحاته.
ولا يكاد يخلو أيّ من أعمال الرسّام من مضامين فلسفية أو أدبية أو اجتماعية أو سياسية أو جمالية.


نهــر الضــوء للفنان الأمريكي فريدريـك تشيـرش

اهتم الرسّامون منذ القدم برسم الطبيعة وتصوير عناصرها المختلفة. وكان هذا النوع من الرسم، وما يزال، يحظى بالشعبية والقبول من الناس.
ومع ذلك كان هناك دائما من يعتقد أن رسم الطبيعة يعتبر اقلّ قيمة من الناحية المهارية والإبداعية من رسم البورتريه أو الأشخاص مثلا. مع أن رسم المناظر الطبيعية يتطلّب من الفنان أن يكون عارفا وملمّا باستخدام الألوان وقواعد المنظور ونسَب الضوء والظلّ.
وحتى منتصف القرن السادس عشر لم تكن هناك لوحات تصوّر طبيعة نقيّة بالكامل. كانت الطبيعة توظّف فقط كخلفية لمنظر يصوّر نشاطا إنسانيا ويتضمّن عادة رموزا أو رسائل دينية أو اجتماعية أو تاريخية.
في ما بعد تغيّرت الحال، وظهرت أعمال فنّية كثيرة مكرّسة بالكامل لتصوير جمال الطبيعة وإعطائها أبعادا ومضامين روحية وشعرية وفلسفية.
ومن أشهر من رسموا الطبيعة الفنّان فريدريك تشيرش الذي يُعدّ احد أشهر رسّامي الطبيعة الأمريكيين. كان تشيرش عضوا في مدرسة نهر هدسون التي كانت تُعنى برسم الطبيعة الأمريكية. كما كان احد مؤسّسي متحف المتروبوليتان في نيويورك في العام 1869م.
وقد تتلمذ على يد توماس كول الذي كان يرى ضرورة أن تتضمّن لوحات الطبيعة معاني رمزية وروحية.
كانت لوحات رسّامي مدرسة نهر هدسون عن الطبيعة تتسم بواقعيّتها الفائقة وبإيلائها اهتماما خاصّا بالأجزاء والتفاصيل الصغيرة.
وكان من عادة أولئك الرسّامين أن يسافروا إلى أماكن نائية ومجهولة كي يرسموا مظاهر الطبيعة فيها، وعلى الأخصّ أحوال المناخ وتشكيلات الغيوم ومشاهد غروب الشمس وشروقها.
كما كانوا يركّزون على الطبيعة كمكان يتعايش فيه الإنسان والنبات والحيوان جنبا إلى جنب بسلام.
هذه اللوحة تصوّر منظرا بانوراميا ينطق بسحر الطبيعة وجلالها في صبيحة يوم غائم في إحدى غابات المطر الاستوائية.
في المشهد نرى نهرا يشبه المرآة تحيط به من الجانبين غابة تغرق في الضباب.
ولأول وهلة قد يظنّ الناظر أن ما يراه هنا صورة فوتوغرافية بالنظر إلى شدّة واقعية اللوحة.
ويبدو واضحا أن الفنان اهتمّ بأدقّ وأصغر التفاصيل وهو يرسم. واللوحة تذكّر، على نحو خاص، بالطبيعة البكر وبالبهاء والفخامة التي تتميّز بها الحياة في المناطق الريفية وفي الغابات.
لوحات تشيرش مشبعة بالضوء وممتلئة بالتفاصيل الصغيرة. وتكثر فيها صور الشواطئ الضبابية وقمم الجبال العالية والغابات العذراء وشلالات المياه العظيمة.
كما تتميّز مناظره بكثافتها الشاعرية وبمعانيها الروحية العميقة. وقد وجد بعضها طريقه إلى الروايات والأدب الأمريكي الذي يتناول مكانة الطبيعة في التجربة الأمريكية.
وقد تأثر في لوحاته بأفكار المنظّر الانجليزي جون راسكين والمستكشف وعالم الطبيعة الألماني الكسندر همبولدت وبكتابات المفكر الأمريكي رالف ايمرسون.
ممّا يلفت الانتباه انه ليس هناك في هذا المنظر سوى الطبيعة وحدها. إذ لا وجود للبشر، باستثناء رجل تلوح صورته من بعيد وهو يجذّف بقاربه الصغير عند مدخل الغابة.
وبوسع المرء وهو يتأمّل هذا المنظر أن يتخيّل صمت وهدوء المكان الذي لا يقطعه، ربّما، سوى صوت انسياب الماء بنعومة وأصوات الطيور والعصافير التي يظهر بعضها على أغصان الشجر وفوق صفحة مياه النهر.
استوحى تشيرش أجواء مناظره من تجاربه الشخصية ومن أسفاره إلى أمريكا اللاتينية التي ذهب إليها ليرسم أنهارها وجبالها وغاباتها. وقد حقّقت بعض لوحاته أعلى المبيعات ليصبح أغلى رسّام أمريكي في زمانه. وكانت أعماله تجتذب الآلاف من الناس الذين كانوا يأتون من شتّى الأماكن لرؤيتها.
كما أكسبته لوحاته عن طبيعة أمريكا الجنوبية شهرة مدويّة واعتبره النقاد آنذاك أعظم رسّام طبيعة أمريكي بعد أستاذه كول.
وقد تمكّن في لوحاته اللاتينية من الإمساك بجوهر مناظر الغابات الاستوائية الممطرة كما تجسّده هذه اللوحة ولوحتاه الأخريان المشهورتان قلب الأنديز وغسَق في البرّية.
اللوحات التي رسمها تشيرش وزملاؤه للطبيعة الأمريكية البدائية لعبت دورا مهمّا في تاريخ الرسم الأمريكي وفي المخيّلة والوعي الثقافي للأمريكيين. كما شجّعت على استيطان مناطق الغرب وزرعت في الناس الإحساس بحبّ الطبيعة والاستمتاع بها وحمايتها.
غير أن ازدياد مظاهر الحياة الصناعية في القرن التاسع عشر كان له تأثير معاكس. إذ أدّى زحف التكنولوجيا إلى إتلاف الكثير من مظاهر البيئة الطبيعية، ما دعا الكثيرين وقتها إلى تأسيس حركات تدعو إلى تقليل الأضرار الناتجة عن زحف النمو الصناعي من خلال العمل على إعادة التوازن ما بين الإنسان والطبيعة.


حيـاة ساكنـة، سلـّة فواكـه للفنان الهولندي بالتـاسـار فانـدر آسـت

لا بدّ وأنّ معظمنا رأى ذات مرّة لوحة من تلك اللوحات التي تظهر فيها صور لفاكهة وزهور وأباريق رُتّبت بطريقة أنيقة ومزخرفة.
هذا النوع من الرسم يُسمّى الحياة الصامتة أو الساكنة. ومن الواضح أن مرأى هذه اللوحات يسرّ العين ويبهج القلب، لأنها تذكّرنا بالطبيعة وبالتنوّع الذي خلقه الله فيها. ولعلّ هذا هو سبب افتتان الناس بها وباقتنائها لتزيين البيوت وأحيانا أماكن العمل.
ومنذ القرن السابع عشر عُني الفنانون الأوربّيون برسم مناظر الحياة الساكنة. فقد كانت من ناحية تظهر براعة الرسّام في الرسم. وكانت أيضا تمنحه حرّية ومرونة اكبر في التوليف لا توفّره لوحات الطبيعة المفتوحة أو البورتريه.
لكن مشاهد الحياة الصامتة أقدم من هذا التاريخ بكثير. فقد كانت مثل هذه اللوحات تزيّن قبور قدماء المصريين الذين كانوا يدفنونها مع الميّت اعتقادا منهم أن الأشياء التي تصوّرها ستصبح حقيقة وسيكون بإمكان المتوفى أن يستخدمها في الحياة الأخرى.
وعبر العصور المتعاقبة وصولا إلى مستهلّ القرن السابع عشر، تطوّرت هذه اللوحات إلى أن أخذت شكلها الحالي على أيدي الرسّامين الهولنديين الذين ادخلوا عليها عناصر جمالية جديدة ومعاصرة.
وكان بالتاسار فاندر آست من أوّل وأشهر الرسّامين الذين تخصّصوا في رسم هذه اللوحات هو وأخوه غير الشقيق امبروزيو بوسهارت.
ولوحاته تتضمّن العديد من العناصر المألوفة التي تظهر عادة في هذا النوع من الرسم، مثل الأزهار والثمار الناضجة والأباريق والكتب والآلات الموسيقية والسلال والأواني المنزلية والحشرات الزاحفة والطائرة والصَدَف والحجارة والكؤوس والمجوهرات وغيرها. أي تلك الأشياء الموجودة في الطبيعة أو التي من صنع الإنسان.
وعادة ما تكون هذه الأشياء مصفوفة على مائدة ومرتّبة بشكل منسّق وجميل.
ولد بالتاسار لأسرة موسرة عُرف عنها اشتغالها بتجارة القطن. وهو احد ثلاثة أشقاء تخصّصوا جميعا في رسم الحياة الساكنة.
وقد عُرف بالتاسار بغزارة إنتاجه إذ تربو لوحاته المعروفة على المائة وخمسين لوحة. وكان من عادته أن يوقّع لوحاته ويوثّق تواريخها.
وقد رسم لوحات عديدة اختار أن تكون دليلا مصوّرا يستعين به تلاميذه على معرفة أساليب تصوير الحياة الصامتة وترتيبها وتلوينها.
ومعظم أعماله موجودة الآن في المتاحف الهولندية وفي بعض المجموعات الفنية الخاصّة.
في هذه اللوحة رسم بالتاسار مائدة مغطّاة بالقماش الأبيض والبنّي وقد وُضُع فوقها صحن وسلّة من السعف وإناء اسود. وفي الصحن والسلّة وعلى أطراف المائدة تناثرت حبّات خوخ وسفرجل ومشمش وعنب أحمر وأسود تعلوها أوراق عنب جافّة.
ومن اللافت أن الفنّان رتّب هذه الأشياء ووضعها معا بهذه الطريقة البسيطة والأنيقة ليعطيها رونقا وبهاءً خاصّا. وهذا ما يجعل النظر إلى هذه اللوحة مصدر متعة خاصة.
اليوم تطوّر رسم مناظر الحياة الساكنة كثيرا عن السابق، حيث أصبحت تُرسم بثلاثة أبعاد وبوسائط أكثر. وعادة ما تُوظف فيها التقنيات الحديثة من تصوير وغرافيكس ونحت وموازييك وأصوات وصُوَر.
كما أن هناك الآن مصوّرين فوتوغرافيين قصروا مجال اهتمامهم على تصوير الحياة الصامتة. ومن أشهر هؤلاء المصوّران الفرنسي بيتر ليبمان والنمساوي بيلا بورسودي.
ومن بين أشهر الرسّامين الذين برعوا في رسم مناظر الحياة الصامتة كلّ من رمبراندت وروبنز وبيكاسو وفان غوخ.
وهناك أيضا سيزان الذي رسم أغلى لوحة حياة صامتة في تاريخ الفنّ بعنوان ستارة وإبريق ماء وفاكهة. وقد بيعت هذه اللوحة منذ سنوات بأكثر من 60 مليون دولار أمريكي.


بورتـريـه شخصـي للفنّانة الايطالية سوفـونيـزبا ويسـولا

قد يكون هذا الاسم غريبا وغير مألوف كثيرا. غير أن صاحبته كانت احد الأسماء الفنّية الكبيرة التي اشتهرت خلال عصر النهضة الايطالي.
عاشت سوفونيزبا ويسولا في زمن مايكل انجيلو وأنتوني فان دايك. ويقال إن الاثنين امتدحا موهبتها وشجّعاها. وكبادرة إعجاب وتكريم، رسم لها الأخير بورتريها.
وقد كان على الرسّامة أن توفّق بين ميولها الفنية وحقيقة أنها تنحدر من عائلة ارستقراطية مشهورة. وعلى الرغم من أن الأسر الارستقراطية كانت تعارض اشتغال أبنائها وبناتها بالرسم باعتباره مهنة دونية، فقد ساعدها والدها وشجّعها على إثبات نفسها عندما عهد بها إلى الرسّام برناردينو كامبي الذي صقل موهبتها وعلّمها أصول وأساليب رسم البورتريه.
في تلك الأثناء، كانت سوفونيزبا قد برعت كثيرا في رسم لوحات لطبيعة ذات جمال نادر. لكنها في ما بعد فضّلت أن تقصر جهدها على رسم البورتريه. وبسبب خلفيّتها الاجتماعية ومكانة عائلتها، كانت تُمنع من بيع أعمالها.
وبشكل عام، كانت رسوماتها صدى للأفكار الإنسانية التي كانت رائجة في عصر النهضة والتي كانت تنادي بتعليم النساء ومساواتهن بالرجال.
هذا البورتريه يُعتبر واحدا من سلسلة من الصور التي رسمتها الفنانة لنفسها في مراحل مختلفة من حياتها.
وكما هو الحال مع بقيّة بورتريهاتها الأخرى، فقد حرصت سوفونيزبا على أن تصوّر نفسها بهيئة رصينة وجادّة ومحتشمة.
وتبدو في اللوحة وهي تحمل الفرشاة وأمامها رقعة الرسم بينما تنظر إلى المتلقّي بعينيين كبيرتين تنطقان بالوقار والثقة.
هيئة الرسّامة تخلو من أيّ ملمح يدلّ على طبقتها. ومن الواضح أنها حريصة على أن لا ترتدي ملابس قد تترك انطباعا بالتباهي أو الكبرياء والتفاخر. كما أنها لا تضع أيّ نوع من الحليّ أو المجوهرات.
ومن اللافت أيضا في اللوحة أن الرسّامة اختارت معطفا اسود بياقة بيضاء. هذا النوع من اللباس البسيط والأنيق هو نفسه الذي يتكرّر في جميع لوحاتها الشخصية التي تظهر فيها إمّا ممسكة بكتاب أو وهي تعزف الموسيقى، للتأكيد على أصلها النبيل وانتمائها للنخبة المثقفة والمتعلمة.
كان النبلاء آنذاك يهتمّون بتعليم نسائهم الآداب الكلاسيكية والفلسفة والتاريخ والعلوم. وقد اهتمت سوفونيزبا ويسولا هي الأخرى بتثقيف نفسها والنهل من مختلف العلوم والمعارف. وهذا أدّى إلى ازدياد حظوظها عند كبار كتّاب وشعراء ايطاليا في ذلك الوقت الذين امتدحوا ذكاءها وأثنوا على مواهبها المتعدّدة.
وقد ترافق هذا مع اتساع شهرتها كرسّامة ورواج أعمالها التي كان أفراد العائلات الملكية والارستقراطية يحرصون على شرائها واقتنائها.
وفي احد الأوقات دعاها الملك الاسباني فيليب الثاني لزيارة اسبانيا حيث عيّنها رسامة للبلاط ومرافقة للملكة. وأثناء خدمتها في بلاط الملك، كانت سوفونيزبا حريصة على تأكيد استقلاليتها وإظهار رصانتها ونضجها.
والغريب أنها لم تتزوّج إلا بعد تخطّيها سن الأربعين. وقد تكفّل الملك الاسباني بدفع تكاليف مهرها وزواجها.
خلال القرن السادس عشر كانت البورتريهات التي يرسمها نساء لأنفسهن تؤكّد على الفكرة المثالية التي تقرن جمال الأنثى بالفنّ. وكانت الفنانات من النساء يستخدمن البورتريه كوسيلة للإعلان عن موهبتهن الفنية ولإثبات أنهنّ لسن بأقلّ رزانة وتمسّكا بالفضيلة من نظرائهن من الرسّامين الرجال.
في أواخر حياتها، رسمت سوفونيزبا ويسولا لنفسها بورتريها تظهر فيه بهيئة سيّدة عجوز. وفي ما بعد، ضعف بصرها فتوقّفت عن الرسم وتفرّغت لدعم وتشجيع الفنّانين الشباب. واستمرّت كذلك حتى وفاتها بمدينة باليرمو في سنّ الثالثة والتسعين.
وقد أغرت شهرتها والنجاح الكبير الذي أصابته العديد من النساء باقتفاء أثرها وأصبح بعضهنّ رسّامات مشهورات مثل لافينيا فونتانا وارتيميزيا جينتيليسكي.


الـبـحــر للفنان الهولندي يـان تــوروب

اهتم الرسّامون منذ القدم بتصوير البحر في حالاته الكثيرة وأطواره المختلفة.
في بعض اللوحات يظهر البحر هادئا ومسالما. وفي بعضها الآخر صاخبا مزمجرا. بعض الفنّانين رسموا البحر كمصدر للوفرة واستمرارية الحياة. والبعض الآخر رسموه كمكمن للأخطار والعواصف القويّة والمدمّرة.
في لوحات ايفازفيسكي، مثلا، تكثر صور البحار الهائجة والسفن الغارقة أو الموشكة على الغرق والبحارّة أو الصيّادين الذين يصارعون الأمواج في محاولة يائسة للتمسّك بالحياة.
قوّة البحر المدمّرة وخطره على الإنسان يظهر جليّا أيضا في لوحات كل من تيرنر وجيريكو.
هذه اللوحة مختلفة بعض الشيء. وقد أرادها الرسّام أن تكون دراسة بصرية عن البحر وعن علاقة اللون بالضوء.
في المشهد لا نرى شيئا سوى الماء والأفق والغيم. لا بشر ولا قوارب ولا طيور يمكن أن تبعد انتباه الناظر عن الموضوع الأساس. فقط موجات ملتفّة تلمع متوهّجة مثل حبّات البلّلور تحت سماء زرقاء تتخلّلها بعض الغيوم.
الألوان ناعمة تجذب العين إذ تتحوّل من خلال طبقات الطلاء السميكة إلى ظلال متدرّجة من الأخضر والأزرق واللازوردي والبنّي والأصفر.
ومن الواضح أن الألوان ممزوجة برقّة وتلقائية، ما يضفي على اللوحة قوّة تعبيرية واضحة.
رسْم المناظر البحرية كان دائما يتطلّب مهارة خاصّة، حيث يتعيّن على الرسّام أن يكون ملمّا بطبيعة التضاريس الساحلية وبتأثير حالات الطقس على درجة عمق الماء ولونه في أوقات مختلفة من النهار.
كان يان توروب، مثل غيره من الانطباعيين، مهتمّا بتصوير الحياة اليومية وأنشطة الناس المختلفة.
وقد رسم هذه اللوحة في مكان ما على الشاطئ الهولندي. وله لوحات أخرى تصوّر البحر مع مناظر لبشر وسُفن.
في ذلك الوقت كان الفنّانون الهولنديون مفتونين برسم لوحات تصوّر غضب البحر وطاقته التدميرية الهائلة.
ولم يكن هذا مستغربا في بلد ظلّ دائما عرضة لأخطار الفيضانات والعواصف البحرية.
لكن في أماكن أخرى من أوربّا، كانت الصورة مختلفة. فقد ظهرت آنذاك روايات أدبية تصوّر حياة سكان السواحل والمناطق البحرية بمظهر من البساطة والفضيلة، مقابل حياة المدن التي كانت مرادفة للتهتّك والانحلال الأخلاقي.
وانعكس هذا التصوّر على أعمال العديد من الرسّامين الذين صوّروا البحر كمصدر واهب للحياة وصديق للإنسان الذي يستمدّ منه أسباب رزقه ويتعايش معه بسلام.
وتكرّست هذه الفكرة المسالمة عن البحر أكثر مع ظهور الشعراء الرومانسيين الذين مجّدوا البحر في قصائدهم واعتبروه رمزا للانبعاث والتجدّد وقوّة تقود إلى الوعي بالذات والإحساس بالحرّية.
ولد يان توروب في جزيرة جاوا الاندونيسية التي كانت في ذلك الحين مستعمرة هولندية. وانتقل في ما بعد إلى هولندا حيث درس الرسم في امستردام وديلفت ولاهاي.
كما ذهب بعد ذلك إلى بلجيكا حيث درس الرسم في أكاديميّتها وجرّب هناك الأساليب الواقعية والانطباعية.
وفي احد الأوقات ذهب إلى باريس حيث التقى فيها الرسّام الأمريكي جيمس ويسلر. كما عاش في انجلترا فترة قبل أن يعود إلى هولندا.
وقد كان لأسلوبه تأثير على الكثير من معاصريه، ومن بينهم الرسّام النمساوي غوستاف كليمت.
ويقال أن توروب هو الذي ادخل الرمزية والانطباعية إلى هولندا. كما انه نظّم أوّل معرض هولندي لـ فان غوخ في نهايات القرن قبل الماضي.
وقد قضى الرسّام السنوات الأخيرة من حياته على كرسيّ متحّرك بعد إصابته بالشلل. وأصبح بعد ذلك يميل إلى رسم المناظر الدينية.
الجدير بالذكر أن لـ توروب ابنة تدعى تشارلي كان قد أنجبها من زوجته الانجليزية. وقد كانت الابنة رسّامة معروفة، هي الأخرى، وذاع اسمها كثيرا في ثلاثينات القرن العشرين واشتهرت برسوماتها التعبيرية.


الأميرة فالانتينا تبكي موت زوجها دوق اورليون للفنان الفرنسي فرانسـوا فلوريه ريشـار

يقال أحيانا أن الأعمال الفنية التي تتناول حالة إنسانية أو تتضمّن عنصرا له علاقة بالتاريخ أو الهويّة الوطنية هي التي يُكتب لها البقاء أكثر من غيرها.
وهذه اللوحة تشتمل علىّ كل هذه العناصر الثلاثة معا.
فهي من ناحية تصوّر حالة إنسانية خاصّة. كما أن لموضوعها علاقة بحدث سياسي وتاريخيّ مهمّ.
الأمر الآخر هو أن اللوحة نفسها جميلة وتروق للعين برغم موضوعها الحزين. كما أنها رُسمت بطريقة تنمّ عن براعة الرسّام ومهارته الفنّية العالية.
واللوحة تصور الأميرة فالانتينا فيسكونتي وهي تبكي زوجها دوق اورليون الذي قُتل على يد ابن عمه دوق بيرغندي في ذروة صراع الرجلين على السلطة في فرنسا مطلع القرن الخامس عشر.
في تلك الفترة كانت فرنسا تعيش أجواء اضطراب وتوتّر سياسي خطير نتيجة الصراع الطاحن على السلطة. فالملك شارل السادس مريض وعلى حافة الجنون نتيجة إصابته بالشيزوفرينيا. والقصر يعجّ بأخبار المؤامرات والدسائس والشائعات بين الخصمين الرئيسيين الطامحين في ملء الفراغ الذي تركه غياب الملك.
غير أن اخطر تلك الشائعات هو ما قيل عن وجود علاقة غرامية بين الملكة وزوج فالانتينا الذي هو بنفس الوقت شقيق الملك. وأيضا ما أشيع عن وجود علاقة غامضة بين فالانتينا نفسها والملك المريض.
وقد جلبت هذه الأخبار غضب الملكة فامتلأ قلبها غيظا وحنقا على الأميرة، وبلغ حقدها ذروته عندما أمرت بطردها نهائيا من القصر ونفيها عن باريس.
هذه اللوحة تكشف عن حالة من حالات الضعف الإنساني وتصوّر الحزن بأجلى صورة. لكنها أيضا تعكس معاني الوفاء والإخلاص والعاطفة الصادقة والقويّة.
وقد اختار الرسّام أن يستحضر في هذا العمل بعض العناصر التي تذكّر بالعصور الوسطى مثل الديكور المستوحى من العمارة القوطية والنافذة ذات الزجاج المعشّق والأنيق. ونفس هذه النوعية من الزجاج تظهر أيضا في الجزء الذي يعلو الستارة حيث النوافذ الثلاث الدائرية الشكل والتي يظهر في الوسطى منها رسم لأفعى خضراء، في إشارة إلى شعار عائلة فيسكونتي الايطالية التي تنتسب إليها المرأة.
كانت نار العداوة على أشدّها بين زوج الأميرة وخصمه الطامع، هو الآخر، في الحكم. وأجّجت الملكة وأنصارها الصراع بين الرجلين بإصدارها مرسوما تعهد فيه إلى دوق بيرغندي بولاية العهد وبتعيينه وصيّا على أبناء الملك العاجز والموشك على الجنون.
غير أن غريمه، أي زوج فالانتينا، لم يستسلم للأمر بل سعى إلى تخريب مهمّة خصمه ونقل النزاع إلى الشارع.
وخوفا من نشوب حرب أهلية، تدخل عمّهما لفضّ الخلاف بينهما وانصاعا أخيرا لمشيئته بموافقتهما على وثيقة الصلح التي اقترحها.
لكن بعد الاتفاق ببضعة أيام، اغتيل دوق اورليون، أي زوج فالانتينا، على أيدي أشخاص مجهولين فاجئوه في احد شوارع باريس وهو يهمّ بامتطاء حصانه فقاموا ببتر ذراعيه بالسيوف لشلّ حركته ثم تركوه ينزف حتى الموت. وتبيّن بعد ذلك أن خصمه اللدود ومنافسه على الحكم هو من دبّر ذلك الهجوم كي يخلو له الجوّ وينعم لوحده بمنصب لا ينافسه فيه منافس.
وقد فجّرت عملية الاغتيال تلك حربا أهلية مدمّرة دامت سبعين عاما وأدّت إلى تقسيم فرنسا إلى معسكرين.
فرانسوا ريشار رسم هذه اللوحة بعد مضيّ أربعمائة عام على تلك الأحداث.
وقد واتته فكرتها عندما رأى ضريح فالانتينا ذات يوم في احد مقابر باريس. وأدهشه بشكل خاصّ العبارة المنقوشة على شاهد القبر والتي تقول: لم يبقَ لي شيء. وأنا نفسي لا شيء!"
كان الرسّام يدرك جيّدا مغزى تلك العبارة المنسوبة للمرأة والتي تعكس يأسها وحزنها الدفين على فقد زوجها وأسفها على الماضي الذي ضاع وانقضى.
كانت فالانتينا ابنة لدوق ميلانو الذي كانت عائلته تمتّ بصلة قربى ونسََب للعائلة الملكية الفرنسية. وقد عاشت مع زوجها الدوق ثمانية عشر عاما كانت خلالها مثالا للزوجة المحبّة والوفيّة. وعندما مات، كان حزنها عليه عظيما وظلّت تبكيه عاما كاملا إلى أن توفّيت وهي لا تتجاوز الثامنة والثلاثين من عمرها.
ليس في هذه اللوحة شيء سوى الحزن والشعور العميق بالفقد والخسارة. حتى الكلب الواقف إلى جوار المرأة توحي هيئته بأنه هو أيضا يشارك سيّدته في حزنها ويشاطرها مصيبتها.
لم يكن فرانسوا ريشار رسّاما فقط، بل مارس الكتابة الأدبية والنقد. وعمل أستاذا في معهد الفنون الجميلة. كما عُرف عنه اهتمامه باكتشاف الطبيعة والآثار. ويصنّف على أنه رائد ما سُمّي بأسلوب التروبادور في الرسم، وهو مصطلح مستمدّ من ظاهرة الشعراء المتجوّلين الذين راجت أشعارهم في العصور الوسطى.
وأتباع هذه المدرسة من الرسم كانوا يُعنون برسم "قصائد مصوّرة" يستلهمون مواضيعها من صور الماضي الغابر ومن الأحداث التاريخية والشواهد الأثرية القديمة.
عندما عرض ريشار هذه اللوحة لأوّل مرّة في صالون باريس، حققت نجاحا كبيرا وقوبلت بالكثير من الثناء والاستحسان. وقد أعجب بها الفنّان جاك لوي دافيد وامتدح مهارة الرسّام في توظيف الألوان الساطعة وفي تمثيل الضوء والظلّ.
كان فرانسوا ريشار الرسّام المفضل للإمبراطورة جوزيفين. وقد اشترت منه هذه اللوحة بعد ثلاث سنوات من إتمامها. ثم انتقلت اللوحة بعد ذلك إلى ملكية عدد من أفراد العائلات الملكية الأوربية. وفي بدايات القرن الماضي ابتاعها متحف بوشكين الروسي وظلّت فيه لسنوات قبل أن تستقرّ أخيرا في متحف الارميتاج في سانت بيترسبيرغ.


آريادني النائمة على جزيرة ناكسوس للفنان الأمريكي جـون فانـدرليـن

كانت شخصيّة آريادني، وما تزال، موضوعا مفضّلا في الشعر والموسيقى والرسم. وكثيرا ما يقترن اسمها بقصّة المتاهة "لابيرينث" المشهورة في الأساطير الإغريقية.
وأوّل من جاء على ذكرها هوميروس في الاوديسّا. تقول الأسطورة أن آريادني كانت ابنة لـ ماينوس ملك كريت.
كانت المرأة مشهورة بجمالها وبأدبها وذكائها. وقد وعدت البطل الأثيني ثيسيوس بأن تتزوّجه مقابل أن ينقذ حياة أهالي كريت الذين احتُجزوا في المتاهة. وبعد أن نجح ثيسيوس في مهمّته جمع بحّارته واصطحب معه آريادني إلى أثينا حيث كان من المفترض أن يتزوّجها.
وفي طريق العودة، نزلوا في جزيرة ناكسوس للراحة وللتزوّد بالغذاء. غير أن ثيسيوس ورجاله غادروا الجزيرة بينما كانت آريادني نائمة.
جون فاندرلين يصوّر في هذه اللوحة آريادني وهي نائمة بينما يظهر ثيسيوس وجنده، إلى اليمين، وهم يستعدّون لمغادرة الجزيرة سرّاً.
براعة الرسّام واضحة في تمثيل الجسد العاري وفي تناغم الألوان وفي استخدام خلفية مظلمة لتركيز اهتمام الناظر على الموضوع الأساسي للوحة.
كما أن هيئة المرأة في اللوحة تذكّر بالأعمال العظيمة التي ظهرت في عصر النهضة، خصوصا لوحات كلّ من جورجيوني وتيشيان.
وجانب من أهمّية هذه اللوحة يتمثّل في أن لها دلالات سياسية تحدّث عنها النقّاد في ذلك الوقت. إذ رأى بعضهم أنها تتحدّث عن العلاقة بين سكّان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر من جهة، والمهاجرين الانغلوساكسون من جهة أخرى.
كما رأوا أن اللون الأحمر يرمز إلى الهنود الحمر والأبيض للأوربّيين.
وقيل أيضا إن وضع الرداء الأبيض فوق الأحمر لم يكن تصرّفا بريئا أو محض صدفة بل يحمل دلالة عنصرية تعبّر عن حقيقة ما حدث في أمريكا عند نشأتها.
هذا التفسير اكسب اللوحة أهمّية وتقديرا إضافيين.
وهناك من قارن أسطورة آريادني الكريتية بأسطورة الفتاة الهندية بوكاهونتاس.
حيث يتخلّى الرجلان العاشقان في كلا القصّتين عن المرأتين بعد أن أنقذاهما من الموت.
والمرأة الهندية تتخلّى عن قومها لتذهب مع رجل أبيض. والمرأة اليونانية تترك هي أيضا أرضها من اجل رجل غريب إلى أن ينتهي بها المطاف فوق جزيرة نائية ومهجورة. أي أن آريادني، في هذه الحالة، غريبة مثل الأوربيين الذين جاءوا إلى أمريكا.
قراءة الأسطورة بهذا الشكل تكشف عن أوجه شبه مزعجة ذكّرت الأمريكيين بجزء من تاريخهم. ومع ذلك، تظلّ هذه اللوحة تحفة فنية بصرف النظر عن حقيقة مّا إذا كان للرسّام أجندة سياسية ما من عدمه.
فكرة المرأة العارية في الرسم فكرة قديمة تعود إلى بدايات القرن السابع عشر.
فقد وجد الرسّامون دائما في الشكل العاري وسيلة للتعبير الإبداعي. كما أن العُري يرتبط بنقاء الإنسان ويجسّد مفاهيم معيّنة مثل الحقيقة والتناسق والكمال.
روبنز، مثلا، كان ينظر إلى العُري كوسيلة لتكثيف جانب السرد الدرامي في اللوحة. وقد رسم نساءً عاريات بأجساد معطاءة ولحم مشعّ مع قدر محسوب من الايروتيكية.
وكلّ الرسّامين الذين صوّروا أشكالا عارية في لوحاتهم كانوا يستقون نماذجهم من ملامح النساء اللاتي يظهرن في التماثيل الرومانية واليونانية القديمة، ومن الأساطير، وأحيانا من طبيعة الحياة المتخيّلة في بلاد الشرق.
وفي القرنين التاسع عشر والعشرين ازدادت جاذبية رسم الجسد العاري وأصبح ذلك من علامات مهارة الرسّام وتميّزه. لكن، شيئا فشيئا، اختفت ملامح فينوس القديمة ذات الجمال المثالي وحلّت مكانها صور لنساء عاريات من الوسط الخاصّ بالفناّن.
ومن أشهر رسّامي هذا النوع من الصور بيكاسو ومانيه ورينوار وكوربيه، بالإضافة إلى ديغا الذي اشتهر بسلسلة لوحاته التي تظهر فيها نساء يغتسلن أو يتحمّمن.
ولد جون فاندرلين في نيويورك لأسرة هولندية مهاجرة. وتعلّم الرسم في أمريكا ثم ذهب إلى فرنسا وايطاليا وانجلترا حيث مكث هناك لسنوات تعلّم خلالها أساليب الرسم الرومانسي والنيوكلاسيكي.
وكان أوّل رسّام أمريكي يعرض لوحاته في صالون باريس.
وقد رسم هذه اللوحة في باريس واستغرق رسمها خمس سنوات.
وعندما عاد بها ليعرضها في أمريكا ثار حولها جدل كبير وطالب كثيرون بإزالتها. في ذلك الوقت لم يكن الأمريكيون قد تقبّلوا بعد فكرة أن تظهر امرأة عارية في عمل فنّي.
تقول نهاية الأسطورة: بعد أن استيقظت آريادني من نومها أحسّت بالصدمة والأسى لتخلّي ثيسيوس عنها. لكن ظهر لها فجأة "باخوس" إله الخمر الذي أنقذها وتزوّجها في ما بعد.
رسم آريادني فنّانون كثُر من بينهم جون ووترهاوس وتيشيان وجورج واتس. كما أصبحت قصّتها موضوعا للعديد من الأعمال الموسيقية كتلك التي ألّفها كلاوديو مونتيفيردي وريتشارد شتراوس وكارل اورف وغيرهم.

الغـُـــراب للفنان الفرنسي كـلـود مـونيـه

كان من عادة مونيه أن يقضي شهور الشتاء في الريف، حيث كان يزاول المشي في الحقول القريبة من منزله ويراقب تساقط الثلج ويرسم أثره على الطبيعة.
في هذه اللوحة يرسم الفنّان مزرعة صغيرة في إحدى قرى النورماندي، وقد غطّى الثلج أشجارها ونباتاتها والبيوت الواقعة خلفها.
وكعادة الانطباعيين، اختار مونيه أن يركّز اهتمامه على تصوير العلاقة بين ضوء الشمس والألوان والظلال في الطبيعة الثلجية.
في مثل هذا النوع من الطقس المتطرّف، يندر أن تشرق الشمس التي تكون عادة متوارية خلف طبقات الغيم. لكن في هذا المنظر، هناك شمس خفيفة، وتأثير الضوء في هذه الحالة وعلاقته باللون والظل مما يثير فضول الفنان ويحفزه لتصوير التفاعل ما بين هذه العناصر وأيضا اكتشاف المزيد من الإمكانيات الجمالية والانفعالية المرتبطة بالظروف المناخية الباردة.
في الظلّ يبدو لون الثلج ازرق شاحبا. وفي المساحات المفتوحة يأخذ لونا ابيض داكنا. بينما تتوزّع على بقية اللوحة درجات خفيفة من الأسود والرمادي والأرجواني والأبيض.
كما يبدو الثلج ذا لمسة أكثر نعومة في الأجزاء التي يغطّيها الظلّ. في حين تتفاوت الأسطح هي الأخرى في مستوى صلابتها و نعومتها بحسب توزيعات الضوء والظلّ فيها.
من اللافت أيضا في اللوحة أن الرسّام استخدم ضربات فرشاة سريعة ومتكسّرة، ما يعطي الانطباع بأن اللوحة لم تكتمل. وهو ما كان يأخذه الناس على رسوم الانطباعيين بشكل عام.
هذا العامل، بالإضافة إلى ما قيل عن شحوب ألوان اللوحة وعدم وفائها بالمعايير الفنية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، هو الذي دفع صالون باريس إلى رفض عرض اللوحة بعد فترة قصيرة من رسمها.
اسم اللوحة يبدو غريبا بعض الشيء، وقد استمدّه الرسّام من الطائر الذي يجلس على البوّابة الخشبية الصغيرة للمزرعة. وهو من فصيلة الغربان ويسمّى بالعربية العقعق أو الغراب الأبقع بسبب سواد لونه الذي تخالطه بقع من البياض في جناحيه وبطنه.
وهذا النوع من الغربان يعيش عادة في المناطق الريفية والزراعية بالقرب من المياه والغابات والمزارع. وهو معروف بقدرته العالية على التكيّف مع مختلف ظروف المناخ. وتعيش أعداد كثيرة منه في أوربّا وأمريكا الشمالية والوسطى وسيبيريا وفي بعض مناطق آسيا.
يعود الفضل لـ مونيه في تأسيس المدرسة الانطباعية في الرسم بالتعاون مع عدد من أصدقائه من الرسّامين أمثال رينوار وسيسلي ومانيه وبيسارو وغيرهم.
وبالإضافة إلى ميله للابتكار والتجديد، عُرف عن مونيه أيضا جدّيته وحرصه على تجويد أعماله. فكان يرسم اللوحة مرّات ومرّات ويجري عليها الكثير من التعديل والتحوير إلى أن تأخذ شكلها النهائي، قبل أن ينقلها إلى رقعة الرسم.
ورغم أن بعض الناس في زمانه لم يكونوا ينظرون إلى أعماله كلوحات كاملة وإنما مجرّد انطباعات، فقد اكتسبت لوحاته مع مرور الزمن كثيرا من أهمّيتها وتميّزها ووجدت إقبالا كبيرا من أصحاب المجموعات الفنية الخاصة الذين كانوا يحرصون على شرائها واقتنائها.
وقد بيعت بعض لوحاته في مناسبات مختلفة بعشرات الملايين من الدولارات، بينما يستقرّ الجزء الأكبر منها في أشهر المتاحف الفرنسية والعالمية.
جمال لوحات مونيه بثراء ألوانها ولمعان أضوائها وما تعكسه من حبّ للطبيعة واحتفاء بالحياة دفعت بعض النقاد إلى تشبيهها بموسيقى شوبان وديبوسيه التي تمتلئ هي الأخرى بالتدرّجات الصوتية وبالانفعالات والمشاعر الجيّاشة.
في السنوات الأخيرة من حياته، عانى مونيه من ضعف بصره، الأمر الذي أدّى إلى الحدّ من قدرته على التمييز بين الألوان، فتغيّر المزاج المتفائل الذي كان يغلب على لوحاته وغابت عنها تلك الألوان الساطعة والمبهجة واستحالت في النهاية إلى مناظر مشوّشة تكثر فيها الألوان الداكنة والثقيلة كالبنّي والأحمر.
ولوحته الصفصاف الباكي التي رسمها قبيل وفاته رأى فيها الكثيرون انعكاسا لإحساس الرسّام بالحزن والوحدة واقتراب الأجل بعد رحيل زوجته وفقدان بصره وتدهور صحّته.
وقد توفي مونيه في الخامس من ديسمبر 1926 عن ستّة وثمانين عاما.


بورتـريه بياتـريتـشا تشيـنشـي للفنان الايطالي غـويـدو رينـي

يقال إن هذه اللوحة هي أكثر اللوحات حزنا في تاريخ الرسم. وهي تصوّر الفتاة الايطالية بياتريتشا تشينشي التي كانت طرفا في قضية مأساوية حدثت في ايطاليا في نهاية القرن السادس عشر.
كانت بياتريتشا تنتمي إلى عائلة ارستقراطية مشهورة. كان والدها الكونت فرانشيسكو تشينشي احد نبلاء روما من أصحاب الحظوة والنفوذ. وقد عرف الرجل بعدوانيته ومزاجه العنيف وتهتّكه الأخلاقي.
ونالت عائلته القسط الأكبر من تسلّطه وسوء خلقه. كان يسيء معاملة زوجته وأبنائه. بل لقد وصل به الحال إلى انتهاك براءة بياتريتشا ابنته الصغرى من زواج سابق. وقد سجن مرارا، لكنْ لأنه نبيل فقد كان يخلى سبيله المرّة تلو الأخرى بسبب نفوذه وعلاقاته الواسعة.
زوجته الثانية، واسمها لوكريتسيا، كانت تعرف الطبيعة المتوحّشة للرجل. وكانت تشفق على الفتاة كثيرا وتعاملها كابنتها بعد موت والدتها. لكن هذا لم يؤدّ إلا إلى اشتداد غضب الزوج عليهما ومعاملتهما بقسوة اكبر.
وفي احد الأيّام قرر الكونت إبعاد زوجته وولديه وابنته إلى قلعة قديمة ومنعزلة كانت تملكها العائلة في ريف روما. وبعد انتقال الأربعة إلى القلعة وضعت بياتريتشا في غرفة مظلمة وحيل بينها وبين الاتصال بأحد. وأثناء مكوث فرانشيسكو في القلعة قرّرت الزوجة والابن الأكبر التخلّص منه فقاما بمساعدة بعض الخدم الذين كان يسيء معاملتهم بربطه ثم ضربه بمطرقة حتى الموت. وبعد ذلك ألقوا بجثّته من أعلى القلعة كي يبدو الأمر وكأنه حادث عرضي. وقد قُبض على الأربعة بعد ذلك وحُكم عليهم جميعا بالموت وبمصادرة جميع ممتلكاتهم. ولم يستثن حكم الإعدام حتى بياتريتشا التي كانت مسجونة في غرفتها ولم تكن على علم بما حدث.
وفي المائتي سنة الأخيرة كانت القصّة المأساوية لـ بياتريتشا تشينشي موضوعا لسلسلة من الأعمال الأدبية والفنية والموسيقية والسينمائية. كما استلهمها كل من البرتو مورافيا وستندال والكسندر دوما في بعض أعمالهم.
احد أبطال هذه المأساة كان البابا كليمنت الثامن الذي اشتهر بصلفه وقسوته وجشعه. وقد أمر بإخضاع الأربعة قبل قتلهم إلى شتّى أنواع التعذيب مما لم تعرف بشاعته حتى محاكم التفتيش. وأوصى خاصّة بمضاعفة تعذيب الصغيرة بياتريتشا لأنها أصرّت على براءتها ووصفت الحكم بالظالم.
كان الناس يعرفون خلفيات الجريمة وكانت مشاعرهم تغلي احتجاجا على قسوة الحكم كما اظهروا قدرا كبيرا من التعاطف مع المدانين. وقد أدّت احتجاجات الناس إلى تأجيل تنفيذ الحكم لعدّة أيّام لكن البابا رفض إظهار أيّ قدر من الرحمة تجاه الأربعة.
وسرت في بعض الأوساط همهمات ضدّ البابا والقضاة الذين كانوا عازمين على قتل العائلة بأكملها ومصادرة ممتلكاتها الضخمة.
وقد تبرّع بعض المحامين المشهورين للدفاع عن بياتريتشا وعائلتها لكنّ البابا كان هو الخصم والحكم في الوقت نفسه. ولم يسمح في البداية بأيّ دفاع، لكنه رضخ مُكْرهاً بعد تدخّل بعض العائلات النبيلة والمتنفّذة.
كان الرسّام غويدو ريني معاصرا لتلك الأحداث. وقد رأى بياتريتشا قبل يوم من إعدامها عندما ذهب إلى زنزانتها بصحبة محاميها. وعندما أبدى رغبته في رسمها تمنّعت في البداية غير أنها وافقت على طلبه في نهاية الأمر.
في اللوحة تبدو الفتاة وهي ترتدي غطاء رأس ابيض يكشف عن بعض خصلات شعرها الأحمر. الملامح بريئة تناسب عمرها الذي لم يكن يتجاوز السابعة عشرة. والهدوء المرتسم على وجهها يخفي ألمها والمعاناة التي مرّت بها والعنف الذي مورس ضدّها.
في صباح اليوم التالي كان على المحكومين أن يعبروا جسرا قديما تقع عند نهايته الساحة المخصّصة للإعدام بينما كانت أجراس الكنائس تدقّ والطبول تقرع. كان يوما حزينا في حياة أهالي روما، عدا البابا ووكلاءه.
بدأ الجلاد بقطع رأس لوكريتسيا، ثم تحوّل إلى الأخ الأكبر فضرب رأسه بالفأس ثم قطّعت أطرافه كي تعرض على الناس، إنفاذا لتعليمات البابا. بياتريتشا التي كانت تنتظر دورها كانت ترتدي ملابس بيضاء وكان وجهها شاحبا ويقال إنها كانت تبدو مثل ملاك. كانت تتوجّه بنظراتها إلى السماء وهي تتمتم: يا الله، انك تعلم أنني أموت بريئة" قبل أن يعاجلها الجلاد بضربة بالفأس ثم يلتقط رأسها ويلوّح به باتجاه الجماهير التي كانت تصرخ رعبا وهلعا.
الوحيد الذي نجا من هذه الحفلة الدموية كان الابن الأصغر برناردينو. فقد خُفّف عنه الحكم، غير انه ألزم بأن يشهد قتل أقاربه واحدا واحدا ثم اُعيد إلى السجن ليقضي فيه عدّة سنوات قبل أن ينفى إلى توسكاني التي ظلّ فيها إلى أن توفّي.
في ما بعد بيعت ممتلكات العائلة المصادرة إلى بعض أقارب البابا بينما تكفّل الكرادلة بشراء الباقي بأثمان بخسة.
مأساة الفتاة وعائلتها أسهمت في انتشار هذه اللوحة على نطاق واسع وقد استنسخت ملايين المرّات وظهرت في الكثير من الكتب والروايات. كما أثارت مخيّلة الشاعر الانجليزي شيللي الذي رآها في احد قصور روما الأثرية فاستوقفته طويلا وألهمته كتابة إحدى قصائده المشهورة.
بعد مرور سنوات على قتل بياتريتشا تحوّل قبرها إلى مزار يقصده الناس الذين أصبحوا ينظرون إليها كقدّيسة، ما دفع الرهبان إلى إزالة الشاهد وتدمير النقوش المحفورة على القبر لمحو كل اثر لصاحبته.
وبعد أشهر من المجزرة التي ارتكبت بحقّ عائلة تشينشي رسم غويدو ريني لوحة يصوّر فيها احد الملائكة وهو يصارع الشيطان ويغلبه. وقد فهم الناس مغزى اللوحة عندما استعار الفنان ملامح وجه بياتريتشا ليعطيها للملاك، بينما أعطى الشيطان ملامح وجه البابا كليمنت الثامن.
وطبقا لبعض الروايات، فإن احد الجلادَين اللذين نفّذا عملية الإعدام مات بعد ذلك بثلاثة عشر يوما تحت تأثير الكوابيس المزعجة والإحساس الشديد بالذنب. بينما تعرّض الثاني لطعنات سكّين حتى الموت على يد شخص مجهول في احد شوارع روما وذلك بعد شهر من حادثة الإعدام.
بعد سنوات رسم الفنان اكيلي ليونارديني لوحة يصوّر فيها غويدو وهو يرسم بياتريتشا في غرفتها بالسجن.
وفي ما بعد، أصبحت بياتريتشا تشينشي رمزا للمقاومة ضد انحلال الارستقراطية وطغيان رجال الدين.
وقد راجت بعد ذلك أسطورة تقول إن بياتريتشا كانت تظهر فوق الجسر كلّ سنة في الليلة التي سبقت إعدامها وهي تحمل في يدها رأسها المقطوع.


بورتريه شخصي مع تمثال نصفي لـ مينيرفا للفنانة السويسرية أنجيـليكـا كوفمــان

فنّانون كثر كانوا مشهورين جدّا في زمانهم ثم نسيهم التاريخ لفترة طويلة. وفجأة ولسبب ما، يتذكّرهم الناس مرّة أخرى وتسلّط الأضواء على حياتهم وفنّهم من جديد.
ومن بين هؤلاء الرسّامة انجيليكا كوفمان التي احتفلت الأوساط الفنّية مؤخّرا بمرور مائتي عام على وفاتها.
كانت كوفمان تتمتّع بشهرة عظيمة في عصرها. بل لقد قيل إنها كانت أشهر فنّانة في روما وكان صالونها ملتقى لأبرز الأدباء والمثقّفين في ذلك الزمان. كما ربطتها علاقة صداقة خاصّة مع الفيلسوف والشاعر الألماني غوته الذي كثيرا ما امتدح ثقافتها ومواهبها الكثيرة. وقد ردّت على ثنائه عليها بأن رسمت له بورتريها عندما كان عمره 38 عاما.
كانت كوفمان رسّامة الملوك والملكات في أوربّا وكانت ترتبط بعلاقة وثيقة مع معظم الأسر الملكية الأوربية. وأينما حلّت كانت تجد الترحاب والحفاوة بسبب موهبتها وجمالها، وأيضا بسبب تلك الهالة من القداسة والبراءة التي كانت تحيط بشخصيّتها.
كانت تلقّب بالآنسة انجيل أو مِس انجيل. وقد قيل إن ملامحها تعطي انطباعا عن امرأة لا تنتمي إلى هذا العالم. وكانت تلك الشهادة بالنسبة لها سلعة غالية ولا تقدّر بثمن. وبسبب حضورها الكبير وجاذبيتها الطاغية كان البعض يلقبّها بربّة الإلهام العاشرة لروما.
في هذا البورتريه الذي رسمته الفنّانة لنفسها تبدو هادئة وواثقة من نفسها. مظهرها العام يشبه مظهر سيّدة مجتمع مثقّفة وعصرية. وهي تنظر إلى المتلقّي بينما تمسك كرّاس الرسم بيد وباليد الأخرى قلما من الشمع. وإلى يمينها تمثال نصفي لـ مينيرفا الإلهة الأسطورية المناط بها رعاية الفنّانين وأرباب الحِرَف. وثمّة احتمال بأن الرسّامة أرادت من خلال التمثال أن تؤكّد أوّلا على أنها فنانة ولكي تعلن عن تعاطفها وانحيازها للرسم الكلاسيكي.
المعروف أن مينيرفا خاضت حربا مع نيبتون للسيطرة على أثينا. وقد كسبت الحرب في النهاية رغم كونها إلهة أنثى. وفي هذا - ربّما - تلميح إلى حتمية نجاح النساء في الفنّ وتبوّئهن مكانة شبيهة بتلك التي للرجال.
في البورتريه أيضا تظهر الرسّامة مرتدية فستانا بلونين بنّي وأبيض زُينّت أطرافه بالفراء.
شكل القماش والسوار الفضّي والبشرة الشفّافة وقلم الألوان واليدين اللتين تمسكان به والألوان المتناغمة، كلّ هذه العناصر مرسومة بدقّة ونعومة. النظرات ذكيّة والابتسامة خفيفة، والانطباع العامّ الذي تثيره اللوحة هو أننا إزاء امرأة تكشف الطريقة التي تقدّم بها نفسها مع أدوات حرفتها عن قدر وافر من الثقة والإصرار والعزيمة.
تلقت كوفمان تدريبا في الرسم على يد والدها الذي كان يعمل بتزيين الكنائس وزخرفتها. وقد أتقنت الرسم وهي في سنّ العاشرة وسافرت مع أبيها إلى عدّة دول أوربية حيث دأبت على استنساخ العديد من لوحات كبار رسّامي عصر النهضة.
وقد عاشت الرسّامة في لندن ستّة عشر عاما وكانت احد مؤسّسي الأكاديمية الملكية، كما كانت المرأة الوحيدة التي تُختار لعضوية كل من الرويال أكاديمي في لندن وأكاديمية روما للفنون.
كانت انجيليكا كوفمان بالإضافة إلى اشتغالها بالرسم امرأة مثقفة. كانت تقرأ بنهم وتعزف الموسيقى وتتقن العديد من اللغات، الأمر الذي قرّبها كثيرا من مجتمع الأدباء والكتّاب في أكثر من بلد أوربّي.
وقد رسمت شعراء وروائيين ومسرحيين بالإضافة إلى لوحاتها الأخرى التي اختارت لها مواضيع تاريخية وأسطورية. وقد الفت عنها كتب عديدة أشهرها كتاب مِس انجيل الذي تناول حياتها وفنّها ودورها في تشكيل الثقافة البصرية الأوربّية.
وقد رسمت الفنانة لنفسها أكثر من بورتريه، وكانت تحاول من خلال رسم نفسها إضفاء طابع درامي على شخصيّتها. وقد أعطت ملامحها لبعض الشخصّيات النسائية التي رسمتها مثل هيلين أميرة طروادة و سافو الشاعرة اليونانية المشهورة.
ويقال إن حياتها المثيرة والمتعدّدة الألوان تصلح موضوعا لأكثر من رواية بسبب قصص الحبّ الكثيرة التي عاشتها، وأشهرها قصّة زواجها من رجل زعم انه "كونت" ثم تبيّن انه كان مجرّد شخص محتال.
وعندما توفّيت في روما عام 1807 نُظّمت لها جنازة قيل إنها أضخم جنازة شهدتها ايطاليا منذ وفاة رافائيل.
ولوحاتها تتوزّع اليوم على عدد من المتاحف الكبيرة في أوربّا مثل الارميتاج والناشيونال غاليري ومتحف ميونيخ للفنون.


التقدّم الأمريكي غرباً للفنان الأمريكي جـون غـاست

هذه اللوحة هي نموذج للفنّ عندما يتحوّل إلى دعاية سياسية أو إيديولوجية. ومع ذلك هي مشهورة ومألوفة كثيرا.
وقد تحوّلت مع مرور الأيام إلى صورة "وطنية" وطُبعت على نطاق واسع وأصبحت في ما بعد مرادفة لفكرة الحدود ومعنى توسّع أمريكا غربا في القرن التاسع عشر.
واللوحة تثير أسئلة تاريخية وسياسية وثقافية كثيرة يتركّز أهمّها حول مشروعية استخدام الفنّ كأداة للترويج لأفكار التوسّع والاحتلال وتنميط الآخر عنصريا.
جون غاست رسَم اللوحة استنادا إلى فكرة دينية تقول إن إنشاء الولايات المتحدة كان قدرا من الله وان التوسّع غربا، أي باتجاه أراضي الهنود الحمر، لم يكن عملا أخلاقيا فحسب وإنّما كان أيضا إذعانا للمشيئة الإلهية.
أمريكا في اللوحة تجسّدها امرأة شقراء ذات ملامح ملائكية ترتسم على جبينها نجمة الامبرطورية وتخطو في الهواء وهي تحمل معها الثقافة والتنوير وأسباب الحضارة الأخرى كي تضيء بها أرضا متخلّفة.
كان الأمريكيون قد بدءوا التقدّم غربا مدفوعين بفكرة دينية تقول إن الله كلّفهم بذلك. وبدأت مسيرتهم من الشرق إلى الغرب، ثم تطوّرت عبر موجات متتالية من الانغلوساكسون الذين اجتاحوا أراضي الهنود تمهيدا لاستيطانها.
في اللوحة، تحمل المرأة في إحدى يديها كتابا مدرسيا وباليد الأخرى أسلاك الهاتف والتلغراف التي يُفترض أنها ستربط الأراضي المفتوحة ببقية أرجاء البلاد. والى أسفل، على الأرض، يظهر جنود وخطوط سكك حديد وعربات نقل وصيّادون ومنقّبون عن الذهب وعربات بخارية. أي باختصار كلّ ما له علاقة بالمدنية الحديثة.
وأمام المسيرة الزاحفة يفرّ الهنود والجواميس والدببة والخيول البرّية ويغيبون في العاصفة.
هذه اللوحة رُسمت بناءً على طلب احد ناشري كتب السفر والرحلات. لكنها سرعان ما أصبحت وسيلة لتشجيع الناس على الذهاب غربا واستعمار أراضي الهنود لأنها تصوّر ما حدث على انه حرب مقدّسة..
فالهنود في اللوحة، واستنادا إلى تلك الفكرة، يهربون من أمام المسيرة لأنهم غير قادرين على التكيّف مع تيّار التاريخ والحضارة، ولأنهم يعبدون آلهة وثنية. وهم يهربون أيضا لكي لا يتمّ أسرهم. فهم في النهاية مخلوقات دون مستوى الإنسان، وهذا مبرّر إضافي لتشريدهم واحتلال أرضهم.
في اللوحة تبدو الأراضي التي فتحها المستوطنون للتوّ في غاية الترتيب والنظام. فالسماء مشرقة وكلّ شيء ساكن وهادئ. لكن المناطق الواقعة إلى يسار اللوحة، أي التي لم يبلغها المستوطنون بعد، تبدو وقد أظلّتها السحب السوداء التي ترمز للجهل والظلام والفوضى والتخلّف.
في تلك الفترة راجت بين المهاجرين الأوربّيين الجدد فكرة تقول إن الغرب الغنيّ لا يسكنه سوى أناس همج وحيوانات مفترسة. وقد كان على الإنسان الأبيض أن ينهض بالمهمّة المقدّسة التي أوكلها إليه الربّ. لذا يظهر الهنود في اللوحة وهم يهربون خوفا من تحقّق الرؤيا الغيبية العجيبة التي ستحوّل أرضهم الخالية إلى جنّة موعودة.
ويمكن اعتبار اللوحة تصويرا مجازيا لفكرة أخرى تقول إن التوسّع أو الاحتلال ليس شيئا حسنا فحسب وإنّما هو أمر حتمي، لأنه نزول عند رغبة الربّ في أن يرى الناس يذهبون إلى الغرب لينشروا فيه التعاليم المسيحية.
من الأشياء اللافتة في اللوحة أن الرسّام تعمّد حصر الهنود في زاوية صغيرة من اللوحة. وفي هذا تشجيع للبيض بأنهم إنّما يفعلون الشيء الصحيح. فأصحاب الأرض الأصليون سينكمشون وينتهون، والمستوطنون سيستولون على الأرض الجديدة لا محالة.
التقدّم الأمريكي باتجاه الغرب كان حدثا مفصليا وهامّا في التاريخ الأمريكي.
وقد ترك الحادث آثارا ونتائج عديدة وانقسم الناس حياله لأسباب إنسانية وأخلاقية في الغالب.
هناك مثلا من كان يرى أن التكنولوجيا الحديثة وموجات الاستيطان المتعاقبة التي أتت إلى أراضي الهنود دمّرت ثقافتهم وأضعفت هويّتهم وأورثتهم مزيدا من التوجّس والعزلة. وهناك من قال أن الهنود الحمر كان لهم آلهة كثيرة وكانوا يطلبون منها الحماية. وفجأة أتاهم أناس غرباء كانوا يعتقدون أن الله أمرهم باحتلال الأرض وإبادة عشرات الآلاف من سكّانها الأصليين واضطهادهم.
وهناك اليوم من الأمريكيين من لا يريد أن يتذكّر تلك الحقبة المظلمة من تاريخ بلدهم. وبالتالي فهم لا يرون في هذه اللوحة مصدر اعتزاز مهما تدثّرت بالشعارات الدينية والوطنية.


سقراط يسحب آلسيباياديز من بيت الغانيات للفنان الفرنسي جـان باتيـست رينـولت

موضوع هذه اللوحة مستمدّ من قصّة وردت في المصادر اليونانية القديمة، وأشهرها كتاب بلوتارك بعنوان "حياة آلسيباياديز". وقد صوّر الموضوع العديد من الرسّامين وأشهرهم جان ليون جيروم وفيليكس اوفاري، بالإضافة طبعا إلى جان رينولت الذي رسم لوحة ثانية عن نفس القصّة.
كان آلسيباياديز احد أكثر الشخصيات إثارةً للجدل في اليونان القديمة. والاهمّ من هذا انه كان احد أفضل تلاميذ وأتباع سقراط. وقد عاش حياة مرفّهة في أثينا وساعده على ذلك جمال ملامحه وثراء أسرته. وعُرف عنه انه كان ذا روح حرّة ومفعما بالنشاط والحيوية. ولهذه الأسباب كان له معجبون كثر بقدر ما كان له أعداء.
كان متزوّجا من امرأة وفيّة وذات مكانة ونسب. لكنّها ضاقت ذرعا بعلاقات زوجها المتعدّدة مع الغانيات. لذا تركته واعتكفت في بيت عائلتها. غير انه لم يكترث للأمر، بل استمرّ في نفس أسلوب حياته المتهتّك والمستهتر.
وقد أصبح تلميذا عند سقراط منذ سنواته المبكّرة. ويقال أنهما كانا منجذبين إلى الفكرة اليونانية القديمة عن الحبّ بين رجل وشابّ. هذا النوع من العلاقة كان أفلاطون، مثلا، يضعه في مكانة أسمى من علاقة الحبّ التي يمكن أن تربط رجلا وامرأة.
لكن آلسيباياديز كان يحبّ النساء أيضا. وكان، مثل بقيّة رجال أثينا آنذاك، يتردّد على بيوت الهوى. في ذلك الوقت، كان الرجال يتميّزون كثيرا على النساء ولم يكن هناك أيّ قدر من المساواة بين الجنسين كما يعرفها الناس اليوم. وكانت غالبية المحظيّات يتوجّهن للطبقة الاجتماعية الرفيعة. ويمكن مقارنة مكانتهنّ بنساء الصالونات التي عرفتها أوربّا خلال القرن التاسع عشر من حيث تمتّعهن بالثقافة والجمال والذكاء والقدرة على انتزاع إعجاب الرجال. ولم يكنّ يعانين من الكثير من القيود الاجتماعية، مقارنة بنساء أثينا المتزوّجات اللاتي كنّ يعشن حياة كبت وتهميش.
وقد جرت العادة أن يتمّ تدريب هذا النوع من النساء على إجادة فنّ الحديث والتسلية الموسيقية والغناء والرقص وعزف الآلات الموسيقية. وكنّ يرافقن الأغنياء ووجهاء المجتمع، مقابل المال، لحضور الندوات وحفلات الشراب والمناسبات الاجتماعية والسياسية والفكرية.
أسبيشيا كانت أشهر هؤلاء. حيث كانت تدير بيتا للغانيات في أثينا، وكانت تعلّم النساء الشابّات فيه على فنون مجالسة الرجال وأحيانا ما هو أكثر من الأمور الحميمة، كالخطابة والجدل. كان سقراط نفسه يحترم هذه المرأة بل ويعتبرها إحدى أفضل النساء في أثينا لكثرة ما كانت تشارك في النقاشات الفلسفية والسجالات الفكرية التي كانت تدور بين أعيان المجتمع والمثقّفين.
والواقع أن من ينظر إلى هذه اللوحة لا بدّ وأن ينحّي جانبا كلّ انطباعاته المسبقة عن المعلّم الحكيم سقراط. فمن الصعب أن نتخيّله غاضبا، مثلا، بسبب زيارة قام بها أحد تلاميذه إلى ماخور. وحتّى فكرة أنه يمكن أن يثور بدوافع الغيرة تبدو فكرة غير محتملة.
في اللوحة يرسم رينولت سقراط وهو في حالة غضب بينما يسحب تلميذه النزق لإبعاده عن إغراء النساء. غير أن آلسيباياديز ما يزال متشبّثا بمحظيّته حتّى وهو يرى أستاذه مصرّا على إخراجه من المكان بالقوّة. وعلى يمين اللوحة، تبدو أسبيشيا وهي تحاول تهدئة امرأة أخرى مستلقية على السرير.
الغريب أن سقراط نفسه كان يستمتع بجلسات منتظمة في حضور الغانيات. لكنه كان ينصح دائما بالاعتدال في كلّ شيء. ولطالما اعترض على أن يصرف الإنسان جزءا كبيرا من وقته على الملذّات الحسّية. وكان يقول إن الاعتدال من شأنه أن يمنع الحالات المتطرّفة من الغضب والانفعال وما تجلبه من نتائج وخيمة.
أفكار سقراط وآراؤه كان لها تأثير كبير على الحضارة الحديثة. وفلسفته كانت احد الأسس الهامّة التي قامت عليها الفلسفة الغربية. ويشاع انه لم يكن جذّابا من حيث مظهره، لكنّه كان إنسانا ذا عزيمة قويّة وقدرة فائقة على ضبط نفسه وكبح تصرّفاته وانفعالاته.
ومع ذلك فقد استمتع بالحياة كثيرا وحقّق شعبية كبيرة في المجتمع الأثيني في زمانه. وكان جهده منصبّا على تعليم الشباب طرق التفكير الصحيح وعرْض ما يُفترض انه حقائق ومسلّمات على ميزان العقل لفحصها وتحليلها.
وقد عَرف سقراط أهميّة السياسة وكان يؤمن بالحقيقة ويركّز على تأكيد قيم العدالة والحبّ والفضيلة، وفوق ذلك أهميّة الجدل العقلاني ومعرفة الذات. كما كان يؤمن بأن الرذيلة إنما هي نتيجة للجهل وأنه لا يوجد شخص سيء بالفطرة. كانت الفضيلة عنده هي المعرفة، وكان يرى أن الذين يعرفون الصواب يتصرّفون دائما بطريقة صحيحة.
كان سقراط مدافعا قويّا عن قيم العدالة والحرّية والمساواة ورافضا بشدّة للأفكار المتزمّتة والمنغلقة، وهذا ما جعله مصدر الهام للكثيرين. وقد سحرت شخصيّته وأفكاره كثيرا من فلاسفة ومفكّري القرن التاسع عشر. ومن أشهر من تأثّروا به هيغل وكيركغارد ونيتشه الذي تحدّث عنه في كتابه "أفول الأصنام" واعتبره احد أهمّ الشخصيّات التي أثّرت في تاريخ العالم. كما لاقت فلسفته هوى عند الوجوديين وعلماء اللغة والاجتماع.
لا يُعرف على وجه التأكيد لماذا رسم رينولت هذه القصّة. لكن يقال انه كان يسقط أفكاره وقناعاته الأخلاقية الخاصّة على الأحداث التاريخية. وهو كان رسّاما اكاديميا ومعاصرا لـ دافيد. وجزء كبير من لوحاته مخصّصة لرسم أحداث وقصص تاريخية.
بالنسبة لـ آلسيباياديز، كانت مشاركته الفعّالة في الحياة العامّة مؤشّرا على ذكائه واتساع نفوذه. وفي إحدى المرّات، عُيّن - ضدّ إرادته على ما يبدو - قائدا لجيش أثينا إلى صقلّية. وأثناء تلك الحملة استدعي إلى أثينا لمواجهة تهم بالتخريب وانتهاك القانون العام. لكنّه هرب إلى سبارتا وعرض خدماته على أهلها لإلحاق الهزيمة بالأثينيين. ونتيجة لذلك، حكمت عليه أثينا بالموت غيابيا وصادرت كافّة ممتلكاته. لكنّه سرعان ما اصطدم مع قادة سبارتا، ما دفعه للهرب هذه المرّة إلى بلاد فارس. غير انه تمكّن من استرداد ثقة أثينا به، فنصّبه أهلها قائدا وحقّق لهم عددا من الانتصارات العسكرية.
وعندما اخفق في حملته في آسيا انقلبوا عليه، ما اضطرّه للفرار إلى فارس من جديد.
وفي ما بعد، أضرمت النار في بيته ذات ليلة، وأثناء محاولته النجاة بنفسه فاجأته عصابة من رماة السهام وقتلوه. ويُعتقد أن أهل سبارتا هم من ضغط على الفرس لاغتياله.


استراحة صانعات القشّ للفنان الفرنسي كميـل بيسـارو

رغم أن كميل بيسارو عُرف باعتناقه للأفكار الفوضوية التي راجت في أوساط الأدباء والفنّانين الفرنسيين في نهاية القرن التاسع عشر، فإن لوحاته تخلو من أيّ أثر لتلك الأفكار. فأعماله مكرّسة بالكامل تقريبا لرسم مناظر الطبيعة والأشياء الساكنة.
كان بيسارو يحبّ حياة القرى والحقول وكان يرى فيها معادلا لتصوّراته عن اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة. وكان يؤمن بأن من حقّ الأجيال القادمة أن تنعم بحياة ريفية نظيفة وخالية من آثار التصنيع والمظاهر الزاحفة للحياة المدنية.
في هذه اللوحة الجميلة يرسم بيسارو منظرا في الريف تظهر فيه ثلاث نساء وهنّ يتبادلن الحديث في احد الحقول حيث يعملن في معالجة أكوام القشّ التي يتمّ جمعها تمهيدا لتجفيفها ومن ثمّ خزنها كي تقدّم في ما بعد كعلف للماشية.
المنظر جميل وهادئ كما انه يعكس بساطة أجواء الريف. وقد استخدم الرسّام هنا فرشاة فضفاضة على غرار ما كان يفعله الانطباعيون. طبقات الطلاء فوق الأسطح السميكة ووهج الضوء والتموّجات اللونية الرائعة هي بعض السمات التي تميّز هذه اللوحة.
ظلّ بيسارو مخلصا للأفكار الثورية والفوضوية طوال حياته. ولم يكن يخفي حنقه وتمرّده على الكثير من قيم مجتمعه آنذاك. ولم يكن يتردّد في المجاهرة باحتقاره للمظاهر البورجوازية والارستقراطية ورفضه للسلطة، داعيا في الوقت نفسه إلى إعلاء قيمة الفرد ومكانته.
وقد عُرف عنه انه كان من أنصار مدرسة الفنّ للفنّ ولم تكن تروق له كثيرا فكرة أن تُضمّن الأعمال الفنية رسائل سياسية أو اجتماعية.
ورغم أفكاره المتمرّدة، فإن بيسارو كان إنسانا متفائلا بطبيعته ولطالما حلم بمستقبل يتحرّر فيه الناس من "عبودية الأفكار الرأسمالية والدينية".
كان بيسارو يفضّل دائما رسم الفلاحين والعمّال، وذلك لإظهار قيمة وشرف العمل وتعبيرا عن احترامه وتقديره لأفراد تلك الطبقة.
"استراحة صانعات القشّ" تثير إحساسا جميلا بحركة اللون وبالقوّة الغامضة للضوء في خلفية هذا المشهد الإنساني الحميم. الطبقات اللونية الشفّافة من الأزرق والأحمر والأصفر والبنفسجي لها تأثير يشبه تأثير الشعر والموسيقى، يعمقّه هذا الانصهار الأنيق بين ضوء الشمس والغبار وامتدادات الحقل والتلال البنفسجية التي تلوح من بعيد.
ومن الملاحظ أن الفنّان رسم طيّات ملابس النساء بحيث تأخذ شكل تموّجات كومة القشّ. وقد كان بيسارو يستخدم الأشخاص كعناصر لا يمكن فصلها عن حركة الهواء والرياح والغيم والضوء والظلّ في لوحاته.
من المتعذّر معرفة مزاج النساء في اللوحة. غير أن المنظر نفسه يحكي عن جانب من الحياة الإنسانية ويصوّر حالة من البساطة والعفوية التي تنعدم فيها القيود والشكليات. كما انه يثير في النفس نوعا من التأمّل الصامت عن حركة الزمن، إذ يذكّر بالأيّام الخوالي وبصور من الماضي عن طقوس الرعي والزراعة وبساطة وبراءة الحياة في الأرياف.
ولد كميل بيسارو في إحدى جزر الكاريبي لأب يهودي ينحدر من أصول برتغالية. وقد تتلمذ على يد كورو وتأثّر بواقعية كونستابل وكوربيه وتيرنر. كما كان صديقا حميما لكلّ من مونيه وسيزان ورينوار.
الجدير بالذكر أن صور القشّ والحقول كانت في بعض الأوقات من الثيمات المفضّلة في الرسم. ومن أشهر من رسموا لوحات تصوّر رجالا أو نساءً يجمعون أو يصنعون القشّ كلّ من جورج ستبس وجان فرانسوا ميليه وفان غوخ وجون سارجنت وجورج مورلاند وغيرهم.


جورج واشنطن يعبر نهر ديلاوير للفنان الأمريكي ايمانـويل لـويتـسـا

كثيرة هي الأعمال الفنّية التي صوّرت ثورة الاستقلال الأمريكية.
كان الكثيرون ينظرون إلى ذلك الحدث باعتباره رمزا للوطنية والتضحية وبحث الأمريكيين عن هويّة وطنية وسياسية.
وضمن هذا الإطار، تكتسب هذه اللوحة أهمّية خاصّة. فقد كانت تعامَل بشيء من التقديس والإجلال، بالنظر إلى رمزيّتها الكبيرة التي لا تقلّ عن تمثال الحرّية.
ويقال إنها أفضل عمل فنّي يسجّل ذلك الحدث التاريخي. ولا يُعرف على وجه التحديد عدد المرّات التي وُظفت فيها هذه اللوحة التي فاقت شهرتها شهرة الفنّان الذي رسمها.
واللوحة تصوّر ما حصل ليلة عيد الميلاد من عام 1776 عندما قاد جورج واشنطن مجموعة صغيرة من الرجال عبرت نهر ديلاوير واشتبكت مع الجنود البريطانيين في سلسلة من المعارك التي كانت مقدّمة لانتصار الأميركيين النهائي في حربهم لنيل الحرّية والاستقلال عن الاستعمار البريطاني.
وقد تحقّق ذلك الانتصار السريع والمفاجئ بعد هزائم وتراجعات عديدة مُني بها الأمريكيون، ما تسبّب في تقويض روحهم المعنوية.
من المفارقات الغريبة أن ايمانويل لويتسا رسم اللوحة بعد مرور ثمانين عاما على تلك الحرب. أي انه لم يكن يعرف بالتحديد تفاصيل ما حدث في تلك الليلة المصيرية. ثم انه رسمها في ألمانيا، وليس في أمريكا، حيث كان يدرس الفنّ هناك.
كان لويتسا متأثرا بالثورة الفرنسية وبأفكار ماركس وانغلز المحرّضة على التغيير والثورة. كما كان شاهدا على الاضطرابات التي كانت تعمّ مناطق كثيرة من أوربّا على خلفية محاولات نابليون تأسيس إمبراطورية فرنسية عظمى.
قبل ذلك بسنوات، كانت عائلة لويتسا قد لجأت إلى أمريكا خوفا من بطش الملكية الألمانية التي كان والده احد مناوئيها. وعندما عاد الرسّام إلى موطنه الأصلي، أي ألمانيا، للدراسة، اختار أن يقيم في دوسلدورف وأن يدرس الرسم في أكاديمية الفنون فيها. هناك رسم هذه اللوحة. وفي الحقيقة فقد رسم نسختين منها. الأولى ظلّت في دوسلدورف وكانت من ضمن ما دمّرته طائرات الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية التي حوّلت المدينة إلى أنقاض وخرائب. والنسخة الثانية المعدّلة، أي هذه، أرسلها الفنان إلى أمريكا كي تُعرض هناك.
في أمريكا، سرعان ما اشتهرت اللوحة وأحبّها الناس لأنها كانت تعزف على وتر المشاعر الوطنية. كما غضّ الكثيرون الطرف عمّا قيل من عدم دقّة بعض التفاصيل التي تتضمّنها والتي تختلف عن السياق التاريخي للحادثة. قيل مثلا أن عبور نهر ديلاوير حدث في الليل وليس ساعة الغروب وأن الفنّان رسم في الحقيقة نهر الراين وليس ديلاوير. كما أن جورج واشنطن كان آنذاك في الأربعينات من عمره، في حين أن اللوحة تصوّره رجلا عجوزا.
هناك أيضا صورة جيمس مونرو، الذي أصبح في ما بعد الرئيس الخامس للولايات المتّحدة، والذي يظهر في اللوحة ممسكا بالعلم. يقال إن العلم أضيف إلى اللوحة في ما بعد وأنه لم يكن نفس العلم الذي رُفع في الحادثة. الرواية التاريخية تتحدّث أيضا عن ليل مظلم وطقس رديء وثلج وغيوم كثيفة، وهي عوامل كانت تشير إلى جسامة المهمّة التي قام بها واشنطن ورفاقه. لكن اللوحة لا تنقل شيئا من تلك التفاصيل.
وعلى الرغم من كلّ ما قيل عن عيوب اللوحة وأخطائها، فقد نجح الرسّام في تصوير روح العزيمة والطبيعة الضخمة لذلك الحدث المفصلي الهام.
وهناك مفارقة أخرى في اللوحة. فقد كانت في الأساس موجّهة إلى الجمهور الألماني وليس الأمريكي. كان الألمان وقتها، ومن ضمنهم لويتسا نفسه، يحدوهم أمل كبير في أن يروا دولتهم - الغارقة وقتذاك في أتون الخلافات والنزعات الانفصالية – وقد توحّدت وأصبحت قويّة ومهابة الجانب. وهذه اللوحة أظهرت لهم كيف أن مجموعة صغيرة من الرجال استطاعوا تحقيق الاستقلال والحرّية لبلدهم بفضل تحلّيهم بروح العزيمة والإصرار والمثابرة.
وقد تأثّرت باللوحة أجيال عديدة من المهاجرين الذين قصدوا الأراضي الأمريكية بحثا عن الفرص والحياة الجديدة وانتصروا على الظروف الصعبة بمثل ما فعل واشنطن ورجاله.
لكن لا يبدو أن الجميع سعداء باللوحة. فبعض رموز الفنّ الحديث كثيرا ما هاجموها على أساس أنها رمز لقوّة أمريكا وهيمنتها الاستعمارية.
وفي الحقيقة، قد لا تتوفّر هذه اللوحة على الكثير من القيم الجمالية والإبداعية. غير أن من المؤكد أنها لعبت دورا في إشعال حماس الأمريكيين وتقوية انتمائهم وذكّرتهم بفصل مهمّ من تاريخ بلدهم في وقت لم يكن فيه صحافة أو وسائل إعلام توثّق لما حدث.
وإلى اليوم، ما يزال الأطفال الأمريكيون يتعلّمون تاريخ بلدهم من منظور هذه اللوحة الحاضرة دوما في الكتب والمناهج الدراسية.
وهناك لوحة رقمية مستنسخة عنها وبنفس حجمها الضخم مقامة في نفس المكان الذي عبر منه واشنطن، يراها الزوّار والسيّاح ويتأمّلون من خلالها كيف أن حادثة صغيرة وعابرة استطاعت أن تغيّر مجرى تاريخ أمريكا والعالم.


السـفيـران للفنان الألماني هانـز هـولبـين

غموض هذه اللوحة المشهورة كان وما يزال مثار جدل منذ أن ظهرت قبل خمسة قرون.
وإلى اليوم، ما تزال تستعصي على محاولات الفهم والتفسير. وقد ألّف عن اللوحة أكثر من كتاب لعلّ أهمّها كتاب سوزان فوستر ومارتن وايلد بعنوان سرّ السفيرين.
ويحسن في البداية إلقاء نظرة سريعة على تفاصيل اللوحة التي قد تعين على فهم بعض رموزها ودلالاتها.
هناك أوّلا الرجلان الواقفان إلى يمين ويسار اللوحة. كلا الرجلين كانا مقرّبين من الملك هنري الثامن ومن أصحاب الحظوة عنده. الفنّان نفسه كان رسّام البلاط. الرجل إلى اليسار هو جان دي دينتيفيل سفير فرنسا لدى انجلترا. والثاني إلى اليمين هو جورج دي سيلفا وهو راهب ورجل دين مرموق. وجها دي دينتيفيل ودي سيلفا يبدوان مألوفين. تنظر إليهما للحظات فيسهل عليك تذكّر ملامحهما وتعابير وجهيهما بعد حين.
الملاحظة الأخرى هي كثرة التفاصيل الدقيقة في اللوحة. ومن الواضح أن كلّ جزء وتفصيل فيها رُسم بواقعية شديدة لدرجة أنها لا تبدو مختلفة عن الصورة الفوتوغرافية. الأشياء التي تفصل بين الشخصيتين تمثّل رموز الآداب والمعارف التي كانت مزدهرة خلال عصر النهضة الأوربّية كالرياضيات والمنطق والموسيقى والهندسة والفلك والخطابة.
لباس الرجل إلى اليسار يبدو دنيويا خالصا، بينما يرتدي الرجل الآخر ثيابا لا تترك مجالا للشك في انتسابه إلى طبقة رجال الدين. طريقة وقوف الشخصين لافتة للانتباه. فهما يبدوان ساكنين وهادئين في مكانهما كما لو أنهما يتهيّأن لالتقاط الصور.
العناصر والأشياء التي تزدحم بها اللوحة كلّها ممّا يسترعي الاهتمام. سطح الطاولة العلوي مغطّى بسجّاد شرقي رُسمت خيوطه ببراعة نادرة. وعلى الطاولة أيضا أدوات رياضية وفلكية متعدّدة. يمكن أيضا رؤية آلة لتحديد الوقت وإسطرلاب وكرة تمثّل الأرض. وعلى الجزء السفلي من الطاولة نرى كتابين وكرة أخرى مجسّمة للأرض وآلات هندسية بالإضافة إلى آلة عود "أو لوت" بوتر مقطوع. الموزاييك على الأرضية يشبه ذلك الذي تُفرش به أرضيّات الكنائس. هناك أيضا الخلفية ذات الحرير الأخضر. وفي أقصى الزاوية العلوية اليسرى يظهر تمثال فضّي صغير يصوّر حادثة الصلب.
لكن اللوحة تخفي جسما غريبا لا يمكن تبيّنه بوضوح إلا عند النظر إليها جانبيا. هذا الجسم هو الجمجمة الظاهرة في منتصف الجزء السفلي وقد رُسمت بطريقة غريبة تبدو معها قريبة الشبه بالسمكة.
وهناك احتمال أن يكون الفنّان رسم الجمجمة بهذه الطريقة المشوّهة كي يصعب على الناظر تمييزها أو التعرّف عليها للوهلة الأولى ولكي يركّز الاهتمام، من ثمّ، على التفاصيل الأخرى للوحة. وربّما أراد الرسّام من خلال الجمجمة أن يصوّر حضور الموت في العالم وأن يقول إن كلّ هذه الثروة والأبّهة والفخامة والسلطة والعلوم لا يمكن أن تحجب الطبيعة الفانية للإنسان. في ذلك الوقت راجت بين الرسّامين الفكرة التي كانت تنقل الحضور البارد للموت إلى خلفية الحياة اليومية. وشيئا فشيئا تطوّرت الفكرة وأصبحت رمزا للحقيقة المختبئة وراء المظاهر السطحية للأشياء.
كان عصر النهضة بالنسبة للكثيرين عصر انبعاث العلوم وازدهار الحرّيات والفلسفة. وقد شاع وقتها توظيف المنهج الأرسطي الداعي إلى كشف البُنى الرياضية والفلسفية التي تكمن وراء الأحداث والظواهر المادّية. غير أن عصر النهضة شهد أيضا توتّرات وأحداثا مؤلمة أتى على ذكرها المؤرّخون.
والسياق التاريخي التي رُسمت فيه اللوحة يشير إلى أن الصراع كان على أشدّه بين هنري الثامن والكنيسة الكاثوليكية. ومن الأشياء التي يُحتمل أن تكون رمزا لذلك الصراع في اللوحة كتاب الترانيم المفتوح والعود ذو الوتر المقطوع الذي قد يكون رمزا لحالة الانقسام والخصومة التي كانت سائدة في ذلك الوقت.
وقد كان هذان السفيران يحاولان إصلاح ذات البين بين الملك والكنيسة للحيلولة دون أن يتطوّر الصراع إلى حرب على الأرض.
لكنْ كانت هناك صراعات أخرى بين انجلترا من جهة وبين غيرها من القوى الاستعمارية الكبرى من جهة أخرى. ولم يكن العالم الإسلامي نفسه بمنجاة من هذا الصراع كما قد توحي بذلك رمزية السجّاد الشرقي في اللوحة.
الأشياء والرموز المتقابلة التي تمتلئ بها اللوحة يمكن أن تكون مفتاحا لفهم الأسئلة أو التصوّرات التي أراد الرسّام طرحها من خلالها. فهو، مثلا، يضع الديني أو الروحي مقابل الدنيوي أو الزمني، والعقل مقابل الروح.. وهكذا.
هل يدعو الرسّام إلى الموازنة بين هذه العناصر؟ هل يلمّح إلى تناغم الدين مع رأس المال أو العكس؟ هل يشير إلى سيطرة المادّية على تفكير الإنسان؟ هل يريد التأكيد على أن الجوانب الروحانية أهمّ من خبرات الإنسان التي يكتسبها في الحياة؟
لا جواب واضحا. الشيء الوحيد الواضح هو أن مضمون هذه اللوحة الغامض يفتح الباب واسعا أمام الكثير من التأويلات المختلفة والمتباينة.
قضى هانز هولبين معظم حياته في انجلترا ورسم أكثر لوحاته عندما كان يعمل في بلاط الملك. ومن أشهر لوحاته الأخرى البورتريه الذي رسمه للملك هنري الثامن وبورتريه آخر مشهور رسمه للمفكّر والسياسي البريطاني السير توماس مور. واللوحتان، بالإضافة إلى هذه اللوحة، هي اليوم من ضمن مقتنيات الناشيونال غاليري في لندن.


ضفـائـر هيـلغـا للفنان الأمريكي انـدرو وايـت

هذه اللوحة هي واحدة من أكثر من مائتي لوحة رسمها اندرو وايت لجارته المهاجرة الألمانية هيلغا نيستورف. وقد رسم اللوحات على امتداد خمسة عشر عاما وسجّل فيها الحالات والتغيّرات المزاجية للمرأة وكذلك تغيّرات الزمن وتعاقب الفصول.
وقد أبقى الرسّام على هذه اللوحات سرّا دون أن يكشف أمرها لأحد، حتّى لزوجته، إلى أن قرّر إخراجها إلى العلن في منتصف ثمانينات القرن الماضي.
ووجدت وسائل الإعلام وقتها في الصور مادّة للإثارة والجدل، وظهر بعضها متصدّرا أغلفة بعض المجلات الكبرى مثل التايم والنيوزويك. كما تحدّث عنها النقاد ووجد فيها عامّة الناس مادّة خصبة للحديث عن المال والشهرة والعلاقات العاطفية.
صور هيلغا التي يشبّهها البعض بالرسوم الإيضاحية أسهمت في شهرة الرسّام وذيوع اسمه. في بعض هذه اللوحات، تبدو المرأة عارية وأحيانا بالقليل من الملابس. ويمكن وصف اللوحات بأنها دراسة جميلة ومتعمّقة في عقل وجسد امرأة واحدة. وقد طافت معظم المتاحف والغاليريهات الأمريكية كما عُرضت في بعض متاحف اليابان.
في هذه اللوحة التي يقال إنها احد أعظم انجازات الرسّام، يركّز وايت على محاولة إبراز جمال الشَعر الإنساني كما تمثّله ضفائر المرأة. ومن الواضح انه عمل كثيرا على التفاصيل كما وظف براعته الفنّية في إبراز تأثيرات الضوء والظلّ.
في اللوحة تبدو هيلغا وهي تشيح بوجهها عن الرسّام والناظر وتتأمّل طبيعة بعيدة.
وعندما تتمعّن في اللوحة عن قرب ستلاحظ أن الفنّان رسم كلّ شعرة بتفصيل غريب ولم يغفل حتى تلك الشعيرات المتناثرة فوق سترتها.
يقال إن الفنان وهو يرسم هذه الصور تعمّد أن يخفي هويّة المرأة فرسم بشرتها بألوان غامقة كما غيّر لون شعرها وأحيانا حوّر ملامحها بحيث تبدو بمظهر نساء شمال أوربا أو النساء الهنديّات.
وقد بيعت مجموعة اللوحات هذه في ما بعد إلى رجال أعمال يابانيين باعوها بدورهم إلى مستثمرين أمريكيين بأكثر من مائة مليون دولار أمريكي.
عندما نُشرت اللوحات لأوّل مرّة، كان بعضها مصحوبا بملاحظات سجّلها الفنان عن وضعية جلوس أو استلقاء المرأة وعن تأثيرات الضوء والظلّ المنعكسة على جسدها أو على جدران ومحتويات الغرفة.
بعض هذه اللوحات تتضمّن مشاعر معقّدة وغامضة وأحيانا قاتمة. في إحداها يظهر جسد المرأة العاري وقد غمره شلال من الخطوط البيضاء المضيئة، وإلى جوارها كتب الرسّام ملاحظة تقول: كنت اشعر بالريف، بالمنزل، بألمانيا، بقطرات الندى الحالمة، برائحة الأنثى وبكلّ هذه الأشياء معا".
عبقرية اندرو وايت وجاذبيّته تتّضح في قدرته على أن يمزج مناظره بتذكّر التجارب الشعورية والعاطفية التي تتحدّث بعمق إلى الآخرين.
وممّا يؤثر عنه قوله ذات مرّة: لو استطعت بطريقة ما قبل أن أغادر هذه الأرض أن امزج بين حرّيتي وحماسي المجنون وبين الحقيقة، عندها أكون قد فعلت شيئا ما".
عناوين اللوحات توحي أحيانا بالعلاقة الحميمة التي تربط الرسّام بالمرأة الموديل.
كما يمكن أن تكون اللوحات انعكاسا لهاجس الفنان بالوصول إلى الصورة المثالية والكاملة.
بعض صور المرأة فيها إحساس بأنها أسيرة ومحبطة وبأن لا حياة لها خارج دورها كموديل للرسّام. في النهاية، هي مجرّد جسد جميل. والرسّام يبدو مهتمّا بلا حدود بتصوير ملامحها وأطرافها وخصلات شعرها الأشقر. لكنه نادرا ما يسمح لها بالنظر إلى المتفرّج.
وفي معظم اللوحات تنظر المرأة جانبيا أو تحدّق في الفراغ أو تعطي ظهرها للناظر. كما تبدو أحيانا مستمتعة بأفكارها وتأمّلاتها. ويصحّ القول إن اللوحات تصوّر بعض جوانب العزلة الأمريكية المزعجة وبحث الإنسان عن معنى للحياة.
كان والد وايت رسّاما هو الآخر. لكن بخلاف والده الذي كان يرسم الشخصيات الأدبية المشهورة، كان وايت الابن منجذبا إلى رسم الشخصيات العامّة والطبيعة. وقد أصبح في ما بعد احد أهمّ الرسّامين الأمريكيين.
وهو مشهور بمناظره التي تصوّر المزارع والعمّال والطبيعة والمنازل المتربة. كما عُرف عنه براعته في تصوير المناظر الريفية والبيوت التي يبدو فيها الطلاء متقشّرا والخشب متآكلا.
بعض النقّاد يعتبر وايت رسّاما واقعيا ومحافظا. والبعض الآخر يرى أن الكثير من رسوماته تحمل سمات حداثية من حيث الشكل والمضمون.
وبعض لوحاته الأخرى توفّر نافذة على عالمه الرمزي والروحي. ومثال ذلك لوحته المشهورة "عالم كريستينا" التي أصبحت إحدى ايقونات الفنّ الأمريكي المعاصر.
توفي اندرو وايت في السادس عشر من يناير عام 2009 بينما كان نائما في بيته في فيلادلفيا عن عمر ناهز التسعين.



رجـل يمشـي 1 للفنان السويسري البيـرتو جيـاكوميـتي

كان جياكوميتي يعتبر هذا التمثال أهمّ وأفضل أعماله النحتية. كما اعتُبر على الدوام احد أهمّ الصور الايقونية التي ترمز للفنّ الحديث. ومؤخّرا أصبح التمثال حديث وسائل الإعلام وأوساط الفنّ عندما بيع في مزاد بـ لندن بأكثر من 65 مليون جنيه إسترليني ليصبح أغلى عمل فنّي في العالم وليتفوّق على لوحة بيكاسو صبيّ وغليون التي بيعت منذ ستّ سنوات بـ 58 مليون جنيه إسترليني. وقد اشترى التمثال زبون مجهول قيل انه كان ينتظر منذ أربعين عاما أن يُطرح التمثال للبيع.
التمثال يصوّر رجلا يمشي بخطوات عريضة ومتردّدة. ساقاه طويلتان وركبتاه تبدوان غير قابلتين للانثناء وكأنّما يمشي على أجهزة مساعدة. طريقة مشي الرجل تذكّر بشخص نجا للتوّ من كارثة إذ يبدو متجمّدا في منتصف خطوته الكبيرة والمتعثّرة.
عُرض هذا التمثال لأوّل مرّة في بينالي فينيسيا بعد عام من إنجازه. وهو ينتمي إلى المرحلة الطبيعية في حياة النحّات ويمثّل بعض تجاربه عن الشكل الإنساني.
من الواضح أن الشخص في التمثال لا يمشي بغرض النزهة. انه يحدّق في هدف غير منظور ويبدو كما لو أن له وجهة يريد الوصول إليها وهو يعرف أن وقته محدود كي يبلغ غايته.
الشخص الطويل والنحيل مثل خيط يميل بجسده إلى الإمام وكأنه ينوء تحت حمل ثقيل أو يحاول تجنّب رياح قويّة أو يستعدّ لاستلام أو تلقّي شيء ما. انه سيزيف العصر الحديث، كما يصفه احد النقّاد، الذي يدفع حجرا لا يمكن رؤيته في طريق وعر وطويل.
انه لا يمشي فقط. رجل جياكوميتي هو في الحقيقة رمز لكلّ إنسان يشقّ طريقه وسط عواصف وأنواء الحياة. وهو مثال للناس العاديّين الذين يعبرون شوارع وساحات المدينة كلّ يوم. كما يصحّ أن يقال انه رمز لإنسان هذا العصر الذي يكافح ويناضل دائما ويبحث عن السلام والطمأنينة فلا يجدهما.
وقد قيل إن جياكوميتي استلهم فكرة هذا التمثال من أوغست رودان الذي نحت تمثالا بنفس الاسم.
غير أن هناك احتمالا آخر بأن تكون فكرة التمثال قد خطرت له عندما شاهد في التلفزيون صورا لضحايا الحروب من النازحين والمهجّرين الذين كانوا يفرّون من بؤر الصراع بتثاقل وخوف للنجاة بأنفسهم.
وفي إحدى المرّات، قيل إن جياكوميتي صنع التمثال وفي ذهنه حادث السير الذي حصل له في فرنسا وتسبّب في تهشيم قدمه اليمنى. وقد ظلّ لسنوات يمشي مستخدما عصا ومستعينا بساق اصطناعية.
المعروف أن البيرتو جياكوميتي أقام في فرنسا أعواما طويلة وربطته علاقة صداقة وثيقة بالفيلسوف جان بول سارتر الذي كان يمتدحه ويثني على أعماله التي كان يرى فيها تعبيرا عن نظرته الوجودية القاتمة للعالم.
كان النحّات السويسري مفتونا بميادين المدن. وكان يحلم دائما بنحت تماثيل توضع في الساحات والميادين وفي البيئات الحضرية. وقد كان مقدّرا لهذا التمثال في البداية أن يُنصب في نيويورك ضمن مشروع فنّي ضخم كان يهدف إلى تزيين منطقة تشيس مانهاتن بلازا. لكن النحّات انسحب من المشروع بعد أن أيقن أن انجازه سيأخذ منه سنوات طوالا.
اشتهر جياكوميتي بتماثيله التي تصوّر أشخاصا واقفين أو يمشون. ويغلب على شخوصه الضعف ودقّة القوام. وكان من عادته أن يصنع نسخا عديدة من أعماله، لكنه كان يتلف معظمها ولا يبقي في النهاية سوى على واحد أو اثنين.
التمثال ينطوي على تقشّف واضح يجسّد اهتمامات الفنان ومشاغله الوجودية. الأسطح تتوهّج تحت درجات الضوء المختلفة، ربّما في إشارة إلى الطبيعة العابرة والمؤقّتة للواقع. وحركة الشخص تكشف عن نفسها من خلال الفراغ والانفعال.
من الواضح أن النحّات في هذا التمثال، وفي أعماله النحتية الأخرى، يحاول الإمساك بما هو ابعد من الواقع الفيزيائي للشكل الإنساني. هناك أيضا التعامل الثريّ والمرن مع البرونز من خلال ديناميكية الأسطح واستدعاء تفاعلات الضوء والظلّ بحيث تصبح جزءا لا يتجزّأ من العمل نفسه.
يؤثر عن جياكوميتي قوله ذات مرّة: لا أتخيّل أنني يمكن أن انحت امرأة إلا وهي في وضع سكون. الرجل هو الذي يمشي ويخطو. المرأة ساكنة والرجل هو الذي يمشي دائما".
ومن بين أعماله الأخرى المشهورة تمثال يصوّر رجلا يتعثّر قبل السقوط، بالإضافة إلى تماثيل أخرى يظهر فيها أشخاص وهم يمشون بخطى ثابتة ومصمّمة.
ولد البيرتو جياكوميتي في سويسرا ثم انتقل إلى فرنسا حيث درس النحت على يد انطوان بورديل زميل رودان وتعرّف إلى التكعيبية والسوريالية واعتبر في ما بعد احد ابرز المثّالين السورياليين.
الجدير بالذكر أن هناك نسختين من هذا التمثال إحداهما موجودة في غاليري اولبرايت-نوكس للفنون والأخرى في متحف كارنيغي.


بورتريه فيرا مامونتوفا للفنان الروسي فـالانتـين سيـروف

كان فالانتين سيروف احد أشهر الرسّامين الذين ظهروا في روسيا في نهايات القرن قبل الماضي. ولم تكن شهرته مقتصرة على روسيا بل تجاوزتها إلى الخارج. وهو ينحدر من عائلة عُرف عن أفرادها اشتغالهم بالرسم وبالموسيقى. وقد هيّأت له أسرته تعليما ممتازا وحياة مرفّهة ومريحة.
بعض لوحات سيروف تعطي انطباعا عن رسّام كان يفهم الطبيعة البشرية والدوافع الكامنة وراء تصرّفات الإنسان.
وكان يمزج في لوحاته بين تقاليد المدرسة الكلاسيكية والأسلوب الانطباعي في الرسم. الغريب أن سيروف كان يرسم لوحات قريبة الشبه بلوحات رينوار، رغم انه لم يكن يعرف شيئا عن ظهور اتجاه جديد في الرسم، آنذاك، يسمّى الانطباعية.
ويمكن اعتبار لوحاته انعكاسا لعالمه المثالي الجميل الذي يضجّ بالحيوية وبالألوان المشرقة والأضواء المبهجة.
رسم سيروف هذا البورتريه الجميل لـ فيرا مامونتوفا ابنة احد كبار رعاة الفنون في روسيا في ذلك الحين.
كان والد فيرا رجلا واسع الثراء وذا نفوذ. وكان من عادته أن يستضيف في ضيعته عددا من أصدقائه الفنانين مع أفراد عائلاتهم حيث يمكثون هناك طوال أشهر الصيف. كان هؤلاء، ومن بينهم سيروف، يقضون وقتهم هناك في دراسة التاريخ والثقافة الروسية وفي الرسم والتأليف الموسيقي.
وقد رسم سيروف هذا البورتريه للفتاة عندما كان في ضيافة والدها. وفيه تظهر فيرا ممسكة بثمرة خوخ بينما تتناثر على المائدة ثمار أخرى مع سكّين. أشعّة الشمس تتخلّل الغرفة وتنعكس على ملابس الفتاة وعلى غطاء الطاولة. حضور الفتاة مريح وبسيط يذكّر بأجواء الريف. الأضواء المتوهّجة توصل إحساسا عن عالم مثالي وبعيد. والمنظر بعمومه يوفّر صورة جمالية للحظات من السعادة والصفاء.
ويُخيّل للناظر أن الفتاة ستترك بعد لحظات الفاكهة التي بيديها لتقفز في سماء الغرفة وتملأها فرحا وحبورا.
الفاكهة في اللوحة قد تكون رمزا لجمال المرأة الشابّة وحيويّتها. وهي تقوم بوظيفة الأزهار التي تظهر في لوحات كثرة تصوّر نساءً. وكلاهما، أي الأزهار والفاكهة، غالبا ما تشير إلى الجمال الأنثوي.
عاش سيروف فترة من حياته في ميونيخ ثم ذهب من هناك إلى باريس التي التقى فيها الرسّام الروسي الكبير ايليا ريبين الذي احتضنه ورعاه وشجّعه.
وعندما عاد إلى روسيا أصبح جزءا من دائرة من الفنانين كان من أشهرهم الرسّام آيزاك ليفيتان والموسيقيّ ريمسكي كورساكوف. وقد رسم لكلّ من هذين الاثنين بورتريها.
جرّب سيروف أنواعا شتّى من الرسم. إذ رسم المناظر الطبيعية كما رسم بورتريهات لشخصيات تاريخية مثل بطرس الأكبر بالإضافة إلى البورتريه المشهور الذي رسمه للأميرة الروسية اولغا اورلوفا.
وفي بعض الأوقات، زاول سيروف التدريس فعمل كأستاذ للرسم في عدد من الجامعات كان آخرها أكاديمية سانت بيترسبيرغ للفنون الجميلة.
توفي فالانتين سيروف في العام 1911 عن تسعين عاما ترك خلالها بصمة لا تُمحى على تاريخ الرسم في بلده والعالم.
وما تزال أعماله تستقطب اهتماما خاصّا من زوّار المتاحف الروسية الكبيرة التي تعرض لوحاته.