بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 24 يونيو 2010

حانـة فـي الــ فولـي بيـرجيـر للفنان الفـرنسـي ادوارد مـانـيــه


رسم ادوارد مانيه هذه اللوحة قبل سنة من وفاته. ورغم مرور أكثر من مائة عام على ظهورها، ما يزال يُنظر إليها باعتبارها واحدة من أكثر اللوحات إثارة وغموضا في تاريخ الفنّ التشكيلي العالمي.
كان مانيه معجبا كثيرا بأسلوب دييغو فيلاسكيز، ولطالما عبّر عن افتتانه بالألغاز البصرية المعقّدة التي ضمّنها الرسّام الاسباني الأشهر لوحته الذائعة الصيت وصيفات الشرف .
لكن يبدو النقاد منقسمين بشدّة حول مضمون هذه اللوحة وقيمتها الإبداعية. بعضهم يرى أنها خالية من أي معنى كما أنها لا تنطوي على أيّ إبداع حقيقي من وجهة النظر الأكاديمية البحتة.
لكنّ نقادا آخرين يرون أن اللوحة نتاج عقلية فذّة ومقدرة فنية فائقة على استخدام اللغة البصرية للمزاوجة بين الواقع الملموس والعالم المجرّد.
المكان الذي تقدّمه اللوحة هو الفولي بيرجير، وهو عبارة عن صالة باريسية شهيرة توفّر لروّادها ضروبا من اللهو والتسلية المختلفة وتقدّم فيها المشروبات وتعزف الموسيقى وتقام فيها العروض والألعاب البهلوانية.
في اللوحة نرى فتاة تقف وسط الحانة وأمامها صفّ من الفواكه والزهور وزجاجات النبيذ والشمبانيا.
لكن عنصر الغموض الأساسي في اللوحة يتمثل في الحاجز الزجاجي الكائن خلف الفتاة.
الزجاج يفترض أنه يعكس الأشياء والموجودات التي أمامه. غير أننا نرى فيه عالما آخر لا علاقة له بما هو موجود في مقدّمة اللوحة من عناصر وأشياء واقعية.
وأهمّ ما يمكن رؤيته منعكسا على الزجاج هو المرأة التي ترتدي القفّازات وتتبادل حديثا على الواقف مع رجل يبدو انه صديق أو زبون ما.
وقد عُرف عن هذا المكان تنوّع الخدمات التي من المفترض أن تقدّمها فتيات الحانة لبعض الزبائن من أصحاب الاحتياجات الخاصّة.
وما من شكّ في أن مانيه عندما رسم هذه اللوحة كان في ذهنه لوحة فيلاسكيز بأحاجيها البصرية وغموضها المثير. وربّما أراد مانيه هو الآخر التأكيد على فكرة أن بعض ما نراه في الواقع من أشياء وصور ومظاهر لا تعدو كونها أمورا تجريدية لا توجد إلا في المرايا. وهذا يستتبع أن يتحوّل المتلقي نفسه إلى حضور شبحي أو متخيّل لا يختلف عن الحشد الذي تنظر إليه الفتاة.
وفكرة مزج الواقعي بالمجرّد في الأدب والفنّ فكرة ليست بالجديدة، وهي تستند إلى افتراض مؤدّاه أن كلّ إنسان يرى الحياة بحسب فهمه وإدراكه، وأن عالم الواقع برغم غناه بالصور والرموز فإنه قاصر عن رؤية ما يختفي تحت سطح الأشياء والمظاهر.
كما تفترض الفكرة أن كلّ ما نعتقد انه واقع ملموس يخفي وراءه وجودا مجرّدا، وبذا يصبح من الضروري إعادة فحص الواقع وتمحيصه للتحرّر من قيوده ونواقصه ولاكتشاف امتداداته المجرّدة.
أحد التفسيرات الكثيرة التي أعطيت لهذه اللوحة هو أن الفتاة غير سعيدة بمهنتها لأنها تشعر أنها غريبة عن عالمها الصغير. وممّا يدعم هذه الفرضية حقيقة أن الفتاة هي الشخص الوحيد الذي لا تظهر صورته منعكسة في المرآة.
والزجاج يقوم هنا بدور الحاجز الذي يفصلها عن محيطها الذي هو عبارة عن غابة من المرايا التي تعكس صورا لأفراد منهمكين في تبادل الحديث والعناق وربّما الكذب والزيف.
قد يكون في ذهن مانيه عندما رسم هذه اللوحة أن الإنسان مهتم بطبعه بالتفاصيل الظاهرة والملموسة لان هذا يسهلّ عليه تفسيرها والبحث عن أسبابها من اجل فهمها والسيطرة عليها.
لذا فإن المزاوجة بين الواقع والمجرّد قد يكون أداة فعّالة تسمح للفنّان أو المبدع بتجاوز الإدراك النمطي والتفسير الحرفي والمباشر للأشياء والظواهر وتنقله إلى فضاء أوسع يستثار فيه العقل ويحفّز الشعور للنفاذ إلى كنه الأشياء وعوالمها الجوّانية.
وهذا لا يتأتّى إلا من خلال هذه المزاوجة التي تنحّي جانبا أية أفكار أو تصوّرات مسبقة وتمنح المجرّد وجودا ذاتيا وخاصّا.
وأيّا ما كانت التفسيرات التي أعطيت للوحة مانيه هذه، فإنها تظلّ إحدى العلامات الفارقة في تاريخ الرسم العالمي سواءً بغرابة مضمونها أو بالأسلوب الثوري الذي أنجزت به أو الجدل الذي أثارته وما زالت تثيره.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق