بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 24 يونيو 2010

رُعـــاة أركــاديـــا للفنان الفرنسـي نيكـولا بُـوســان

تستمدّ هذه اللوحة المشهورة موضوعها من قصّة أسطورة، أو بالأحرى من مقطع قصيدة للشاعر الروماني فرجيل الذي عاش قبل الميلاد يتحدّث فيه عن الرعاة الأركاديين "نسبة إلى أركاديا".
وأركاديا منطقة في اليونان عُرفت في الأزمنة السحيقة بسهولها الخصبة وتلالها الخضراء وحدائقها الغنّاء. كما اشتهرت بنهرها الذي أتى على ذكره الشاعر الانجليزي كولريدج في إحدى قصائده.
كانت أركاديا بمثابة الفردوس المفقود أو اليوتوبيا التي طالما تحدّث عنها الشعراء والفلاسفة وكان الوصول إليها أمرا في غاية الصعوبة إذ كانت تحيطها الجبال الوعرة من مختلف الجهات.
وفي أركاديا كانت تكثر البحيرات والغدران والمروج والغابات. ولم تكن سكناها مقتصرة على البشر وحدهم، بل كان يعيش معهم مخلوقات أخرى مثل عرائس البحر وحوريات الغابات وملكات الليل والجياد المجنّحة بالإضافة إلى عدد غير قليل من الآلهة.
في ذلك الزمان كان أهل أركاديا يشتغلون برعي الماشية.
لم يكن يكدّر صفو حياتهم شيء، وكانوا يمضون جلّ وقتهم في عزف الموسيقى والغناء والرسم.
ومع الأيام أصبحت موسيقاهم محلّ تقدير وإعجاب الشعوب اليونانية كلها. كما وجد الشعراء في تلك الموسيقى مصدرا يستلهمون منه قصائدهم وأشعارهم.
وكان من بين هؤلاء فرجيل الذي كتب قصيدة أجراها على لسان الموت وكيف انه موجود "حتى في أركاديا".
الفنان نيكولا بوسان اقتبس هذا الجزء من القصيدة واستلهم دلالته كمضمون لهذه اللوحة التي تعتبر أشهر لوحاته وأكثرها انتشارا.
كان بوسان رسّاما وشاعرا وفيلسوفا. وكان يستمدّ مواضيع لوحاته من آثار وأساطير العالم القديم.
وقد وجد في قصّة أركاديا موضوعا يتساوق مع ميله لتصوير الميثيولوجيا. ثم إنه عاش في القرن السابع عشر، وهو العصر الذي كان يتّسم بشيوع الأفكار والتقاليد الرعوية في فرنسا، تماما مثلما كان عليه الحال في أركاديا، عندما كان الناس يقبلون على الموسيقى والأشعار العاطفية والملحمية.
في اللوحة نرى أربعة رعاة، ثلاثة رجال وامرأة، يتأمّلون قبرا مبنيّا من الحجارة في بقعة نائية. ويبدو الرعاة الأربعة وهم يحاولون تهجئة جملة كتبت على القبر باللاتينية تقول: حتى في أركاديا أنا موجود".
من المفترض أن الرجل الميّت كان يعيش في أركاديا. وبيئة المكان نفسه من حجارة وشجر وخلافه تعطي انطباعا عن حضارة موغلة في القدم. حتى هيئة الأشخاص ولباسهم يبدو متناغما مع طبيعة المكان.
من الأشياء الملفتة في اللوحة منظر احد الرعاة الذي يبدو جاثيا على ركبته ومشيرا بإصبعه نحو القبر وهو يحاول قراءة العبارة المنقوشة على جداره.
ثم هناك الراعي الثاني إلى اليسار الذي راح يخاطب المرأة ذات التقاطيع التمثالية الجميلة كما لو انه يطلب منها قراءة ما هو مكتوب على القبر. والطريقة التي تنظر بها المرأة إلى ما يجري ربّما تشي بأنها هي الشخص الذي يعوّل عليه الباقون مهمّة فكّ الأحرف المكتوبة على القبر.
من الواضح أن المشهد يصوّر لقاءً مباشرا مع الموت. أما الانفعالات المرتسمة على وجوه الشخوص فيغلب عليها الشعور بالمفاجأة أكثر من كونه شعورا بالرهبة أو الخوف.
والفكرة التي يريد الفنان إيصالها من خلال اللوحة مباشرة وواضحة. إنه يقول إن الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة هي أننا نولد ثم نموت، وأن لحظات السعادة في الدنيا قصيرة وعابرة. وحتى عندما نكتشف مكانا نشعر فيه بالسعادة وراحة البال، مثل أركاديا، فإننا يجب أن نتذكّر أن هذا المكان محكوم هو أيضا بالفناء والتلاشي في نهاية المطاف.
وبهذا المعنى فإن أركاديا ليست أكثر من ملاذ مؤقّت يلتمس فيه الإنسان بعض السعادة والراحة، لكنه في النهاية لا يوفّر حلا واقعيا يخفّف عن الإنسان ثقل هاجس انشغاله بالطبيعة الموقّتة للحياة وحتمية الموت.
وهذه هي الفكرة التي سنجد صداها يتردّد في ما بعد في أعمال رسّامين آخرين جاءوا بعد بوسان مثل ايشر و ماغريت و فريدريش و باكلين
لقد كُتب عن هذه اللوحة الكثير. وثمّة قصص متواترة عن أسرار خفيّة ورموز غامضة قيل إن الفنان أودعها فيها.
وفي بعض الأوقات راجت أقاويل عن ارتباط اللوحة ببعض الجماعات والمنظمات السرّية والمغامرين الباحثين عن الكنوز الدفينة.
من الواضح أن الفنان خطط لوحته هذه بعناية، كما أن استخدامه للألوان الشفّافة والأشكال الواضحة في اللوحة ينمّ عن براعة غير عادية.
وليس بالمستغرب أن تروق هذه اللوحة للفلاسفة والشعراء بالنظر إلى مضمونها الفلسفي والوجودي.
مما يجدر ذكره أن بوسان عاش معظم حياته في ايطاليا التي بُهر بشواهدها الاثارية ومعالمها النحتية العظيمة.
ولهذا السبب كان يرى الأشياء بعيني نحّات، وكان يردّد دائما أن الفنّ العظيم هو الذي يخاطب العقل لا الحواسّ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق