ترتبط الدانمرك في الأذهان بجملة من الأشياء والانطباعات. ففيها أقدم نظام ملكي في العالم. وهي بلد قبائل الفايكنغ والملك هاملت والكاتب هانس كريستيان اندرسون والفيلسوف الوجودي كيركغارد. كما أنها بلاد شمس منتصف الليل وتمثال عروس البحر الصغيرة وليالي الشتاء الباردة والطويلة بما تثيره من إحساس بالحزن والوحدة والكآبة.
ومن بين من كتبوا عن الدانمرك الأديب البريطاني في إس نيبول الحائز على جائزة نوبل للأدب والذي أقام في الدانمرك فترة.
يقول: إذا كنت مهتمّا بالذهاب إلى مكان مرعب فأوصيك بالدانمرك. هناك لا أحد يجوع، والناس يعيشون في بيوت صغيرة وجميلة. لكن لا احد غنيّ. ولا أحد يملك فرصة أن يعيش حياة باذخة. وكلّ شخص مكتئب!
إنهم يعيشون في زنازين محكمة التنظيم مع مفروشاتهم الدانمركية ومصابيح الإضاءة الأنيقة التي بدونها يمكن أن يصابوا بالجنون".
وبصرف النظر عمّا إذا كان كلام نيبول صحيحا أو أن فيه شيئا من المبالغة الساخرة، فإنه يمكن القول إن لوحات وليام همرشوي، أكبر وأشهر رسّام دانمركي بل واسكندينافي، تقدّم صورة واقعية إلى حدّ كبير عن طبيعة الحياة في الدانمرك. كما أنها تشكّل انعكاسا لشخصية هذا الفنان ونمط شخصيته. فقد كان همرشوي إنسانا خجولا، متكتّما وغامضا مثل لوحاته. وبخلاف هذا، لا تتوفر الكثير من المعلومات عنه. لكن من المرجّح أنه عاش حياة مريحة بفضل خلفيته البورجوازية واشتغال والده بالتجارة.
وأجواء رسوماته تذكّرنا بلوحات مواطنه الفنان كارل هولسو Carl Holsoe وبلوحات كلّ من يوهان فيرمير وإدوارد هوبر.
في هذه اللوحة الجميلة يرسم همرشوي زوجته "آيدا"، وهي بنفس الوقت الموديل التي تظهر في جميع لوحاته.
وهي هنا تبدو واقفة وظهرها للناظر، أي أننا لا نرى ملامح وجهها ومن ثمّ يصعب التعرّف على طبيعة انفعالاتها في تلك اللحظة.
لكن بوسع المرء أن يكتشف أننا أمام منظر ينفتح على عالم من الصمت والسكون ويثير إحساسا بالعزلة والتذكّر الحزين.
حتى الديكور نفسه ساكن، بارد ومنعزل. والألوان في اللوحة هي ألوان همرشوي المفضّلة دائما، أي ذلك المزيج المتدرّج والناعم من الرمادي والأسود والأبيض.
ورغم أناقة هذه الألوان وتناغمها الرقيق والشائك، فإنها لا تعمل إلا على تعميق الإحساس بالهجر والانفصال والكآبة.
لكن المشهد شاعري وحالم إلى حدّ ما. تنظر إلى هذه المرأة، بجسدها الضئيل وفستانها الداكن وانحناءة رأسها الخفيفة، فيخيّل إليك أنها تعيش في عالم آخر يتجاوز حدود الفضاء الفيزيائي الضيّق الذي تقف فيه.
ومع ذلك، فهي تبدو مطرقة، حزينة، جامدة وشاردة الفكر.
قد يكون السبب أنهما - أي الفنان وزوجته - لم يرزقا بأطفال أبدا. ويقال إن همرشوي تزوّج "آيدا" كي يستنقذها من معاملة والدتها التي كانت تعاني من اضطرابات سلوكية.
وهناك احتمال بأن تكون قد ورثت عن أمّها ذلك الجانب المظلم من شخصيّتها.
ومع ذلك كانت العلاقة بين الزوجين تتسم دائما بالمحبّة والدفء والألفة.
ويقال أنها وقفت إلى جانبه بتفان وإخلاص عندما أصيب بالسرطان، واستمرّت تلازمه وترعاه حتى وفاته في سنّ الحادية والخمسين.
وقد أنجز الفنان جميع لوحاته في نفس المنزل الذي عاشا فيه طوال حياتهما.
وما يزال البيت قائما إلى اليوم، لكنه أصبح في عهدة مالك آخر.
كان همرشوي مهتمّا في لوحاته، وبشكل خاص، بتمثيل الضوء الذي كان يرى انه يمنح الأشياء الجامدة حياة ويخلع عليها هويّة وكينونة خاصّة بها.
وافتتانه بالضوء ليس بالأمر الغريب أو المفاجئ. فمعظم رسّامي شمال أوربّا كانوا يرون في الضوء نوعا من الاحتفاء بالحياة وانبعاث الأمل. وكانوا مغرمين برسم تلك اللحظات العابرة التي تشرق فيها الشمس مشيعة بعض الحرارة والدفء قبل أن يخيّم الظلام والبرد مرّة أخرى ومعهما ذلك الإحساس الغامض الثقيل بالحزن والانقباض.
وفي العديد من لوحاته، نرى نفس المرأة إمّا واقفة أو جالسة بهدوء وهي تؤدّي بعض الأعمال المنزلية. وكثيرا ما تظهر صورة لآلة بيانو ولوحة معلقة بطريقة أنيقة على الجدار. في حين تأخذ الملابس والديكور والمعمار بعض سمات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وفي بعض أعماله الأخرى نلمس إحساسا عظيما بالفراغ، عندما يرسم مناظر لغرف خالية إلا من تأثير الضوء المتسرّب عبر النوافذ والمنعكس على ذرّات الغبار المتطايرة، وبعض الأثاث الذي يبدو بسيطا متقشفا. ولطالما اعتقد همرشوي أن الغرف تنطوي على جمال متأصّل وخاصّ حتى مع عدم وجود بشر فيها، وربّما بالتحديد عندما لا يكون فيها بشر.
ومن خصائص لوحاته أنها محدودة الأبعاد، أحادية اللون وكثيرا ما تستعصي على التفسير. لكنها مع ذلك مثيرة للاهتمام بطبيعتها الشاحبة وجمالها اللامع.
وهناك من النقاد من يصفون لوحاته بأنها قصائد صامتة. ويصحّ القول أنها نوع من الجمال الحزين أو الحزن الجميل.
ومن الواضح أن مشاهده الساكنة والحزينة هي نتاج عفوي ومباشر لروحه ومشاعره الشفافة، أكثر من كونها مستندة إلى نظريات أو أطر فنية معدّة مسبقا.
وفي السنوات الأخيرة، ازداد الاهتمام بـ همرشوي ولوحاته، وتضاعف ذلك الاهتمام أكثر إثر قيام تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية بإنتاج برنامج وثائقي نادر عن الفنان وأعماله.
إن ثمّة شيئا ما غامضا يجذب الإنسان إلى لوحات همرشوي بتفاصيلها الغريبة وألوانها الهادئة والمحايدة. شيء ما أعمق بكثير من مسألة الشكل والتكنيك أو الأسلوب الفني الذي يوظفه في أعماله.
ومن المحزن أنه لم يترك وراءه أي مذكّرات أو كتابات يتحدّث فيها عن نفسه بعد أن أتلف مجموعة رسائله الخاصة قبيل وفاته عام 1916م. ولعله فعل هذا متعمدّا كي لا يتعرّف عليه الناس مباشرة، بل يكتفوا بالبحث في لوحاته عن مفاتيح وإشارات قد تدلّهم على طبيعة شخصيّته وأفكاره ونظرته للحياة.
إن من يتأمّل مناظر همرشوي ويتمعّن في ألوانها المرهفة وتفاصيلها البديعة، لا بدّ وأن يعجب به ويتعاطف معه ويقتنع أكثر فأكثر أنه كان إنسانا مختلفا وفنانا متميّزا جدّا.
ومن بين من كتبوا عن الدانمرك الأديب البريطاني في إس نيبول الحائز على جائزة نوبل للأدب والذي أقام في الدانمرك فترة.
يقول: إذا كنت مهتمّا بالذهاب إلى مكان مرعب فأوصيك بالدانمرك. هناك لا أحد يجوع، والناس يعيشون في بيوت صغيرة وجميلة. لكن لا احد غنيّ. ولا أحد يملك فرصة أن يعيش حياة باذخة. وكلّ شخص مكتئب!
إنهم يعيشون في زنازين محكمة التنظيم مع مفروشاتهم الدانمركية ومصابيح الإضاءة الأنيقة التي بدونها يمكن أن يصابوا بالجنون".
وبصرف النظر عمّا إذا كان كلام نيبول صحيحا أو أن فيه شيئا من المبالغة الساخرة، فإنه يمكن القول إن لوحات وليام همرشوي، أكبر وأشهر رسّام دانمركي بل واسكندينافي، تقدّم صورة واقعية إلى حدّ كبير عن طبيعة الحياة في الدانمرك. كما أنها تشكّل انعكاسا لشخصية هذا الفنان ونمط شخصيته. فقد كان همرشوي إنسانا خجولا، متكتّما وغامضا مثل لوحاته. وبخلاف هذا، لا تتوفر الكثير من المعلومات عنه. لكن من المرجّح أنه عاش حياة مريحة بفضل خلفيته البورجوازية واشتغال والده بالتجارة.
وأجواء رسوماته تذكّرنا بلوحات مواطنه الفنان كارل هولسو Carl Holsoe وبلوحات كلّ من يوهان فيرمير وإدوارد هوبر.
في هذه اللوحة الجميلة يرسم همرشوي زوجته "آيدا"، وهي بنفس الوقت الموديل التي تظهر في جميع لوحاته.
وهي هنا تبدو واقفة وظهرها للناظر، أي أننا لا نرى ملامح وجهها ومن ثمّ يصعب التعرّف على طبيعة انفعالاتها في تلك اللحظة.
لكن بوسع المرء أن يكتشف أننا أمام منظر ينفتح على عالم من الصمت والسكون ويثير إحساسا بالعزلة والتذكّر الحزين.
حتى الديكور نفسه ساكن، بارد ومنعزل. والألوان في اللوحة هي ألوان همرشوي المفضّلة دائما، أي ذلك المزيج المتدرّج والناعم من الرمادي والأسود والأبيض.
ورغم أناقة هذه الألوان وتناغمها الرقيق والشائك، فإنها لا تعمل إلا على تعميق الإحساس بالهجر والانفصال والكآبة.
لكن المشهد شاعري وحالم إلى حدّ ما. تنظر إلى هذه المرأة، بجسدها الضئيل وفستانها الداكن وانحناءة رأسها الخفيفة، فيخيّل إليك أنها تعيش في عالم آخر يتجاوز حدود الفضاء الفيزيائي الضيّق الذي تقف فيه.
ومع ذلك، فهي تبدو مطرقة، حزينة، جامدة وشاردة الفكر.
قد يكون السبب أنهما - أي الفنان وزوجته - لم يرزقا بأطفال أبدا. ويقال إن همرشوي تزوّج "آيدا" كي يستنقذها من معاملة والدتها التي كانت تعاني من اضطرابات سلوكية.
وهناك احتمال بأن تكون قد ورثت عن أمّها ذلك الجانب المظلم من شخصيّتها.
ومع ذلك كانت العلاقة بين الزوجين تتسم دائما بالمحبّة والدفء والألفة.
ويقال أنها وقفت إلى جانبه بتفان وإخلاص عندما أصيب بالسرطان، واستمرّت تلازمه وترعاه حتى وفاته في سنّ الحادية والخمسين.
وقد أنجز الفنان جميع لوحاته في نفس المنزل الذي عاشا فيه طوال حياتهما.
وما يزال البيت قائما إلى اليوم، لكنه أصبح في عهدة مالك آخر.
كان همرشوي مهتمّا في لوحاته، وبشكل خاص، بتمثيل الضوء الذي كان يرى انه يمنح الأشياء الجامدة حياة ويخلع عليها هويّة وكينونة خاصّة بها.
وافتتانه بالضوء ليس بالأمر الغريب أو المفاجئ. فمعظم رسّامي شمال أوربّا كانوا يرون في الضوء نوعا من الاحتفاء بالحياة وانبعاث الأمل. وكانوا مغرمين برسم تلك اللحظات العابرة التي تشرق فيها الشمس مشيعة بعض الحرارة والدفء قبل أن يخيّم الظلام والبرد مرّة أخرى ومعهما ذلك الإحساس الغامض الثقيل بالحزن والانقباض.
وفي العديد من لوحاته، نرى نفس المرأة إمّا واقفة أو جالسة بهدوء وهي تؤدّي بعض الأعمال المنزلية. وكثيرا ما تظهر صورة لآلة بيانو ولوحة معلقة بطريقة أنيقة على الجدار. في حين تأخذ الملابس والديكور والمعمار بعض سمات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وفي بعض أعماله الأخرى نلمس إحساسا عظيما بالفراغ، عندما يرسم مناظر لغرف خالية إلا من تأثير الضوء المتسرّب عبر النوافذ والمنعكس على ذرّات الغبار المتطايرة، وبعض الأثاث الذي يبدو بسيطا متقشفا. ولطالما اعتقد همرشوي أن الغرف تنطوي على جمال متأصّل وخاصّ حتى مع عدم وجود بشر فيها، وربّما بالتحديد عندما لا يكون فيها بشر.
ومن خصائص لوحاته أنها محدودة الأبعاد، أحادية اللون وكثيرا ما تستعصي على التفسير. لكنها مع ذلك مثيرة للاهتمام بطبيعتها الشاحبة وجمالها اللامع.
وهناك من النقاد من يصفون لوحاته بأنها قصائد صامتة. ويصحّ القول أنها نوع من الجمال الحزين أو الحزن الجميل.
ومن الواضح أن مشاهده الساكنة والحزينة هي نتاج عفوي ومباشر لروحه ومشاعره الشفافة، أكثر من كونها مستندة إلى نظريات أو أطر فنية معدّة مسبقا.
وفي السنوات الأخيرة، ازداد الاهتمام بـ همرشوي ولوحاته، وتضاعف ذلك الاهتمام أكثر إثر قيام تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية بإنتاج برنامج وثائقي نادر عن الفنان وأعماله.
إن ثمّة شيئا ما غامضا يجذب الإنسان إلى لوحات همرشوي بتفاصيلها الغريبة وألوانها الهادئة والمحايدة. شيء ما أعمق بكثير من مسألة الشكل والتكنيك أو الأسلوب الفني الذي يوظفه في أعماله.
ومن المحزن أنه لم يترك وراءه أي مذكّرات أو كتابات يتحدّث فيها عن نفسه بعد أن أتلف مجموعة رسائله الخاصة قبيل وفاته عام 1916م. ولعله فعل هذا متعمدّا كي لا يتعرّف عليه الناس مباشرة، بل يكتفوا بالبحث في لوحاته عن مفاتيح وإشارات قد تدلّهم على طبيعة شخصيّته وأفكاره ونظرته للحياة.
إن من يتأمّل مناظر همرشوي ويتمعّن في ألوانها المرهفة وتفاصيلها البديعة، لا بدّ وأن يعجب به ويتعاطف معه ويقتنع أكثر فأكثر أنه كان إنسانا مختلفا وفنانا متميّزا جدّا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق